أعراف المجتمع والنظرية النحوية.. التباعد والتنافر
هناك معطيات لنماذج لغوية، وأنماط تركيبية كان لأعراف المجتمع أثر في التأسيس لمجيئها، أولها: المنزلة الاجتماعية وبنية الخطاب، المجتمع ينشئ أبناءه على أن يعتد الواحد منهم بذاته، وأن يتهيأ للتميز الاجتماعي، فالمتكلم يقدم نفسه على مخاطَبِه، ثم يقدم المخاطب على الغائب، فلا نعثر في العربية، الملك وأنا، زيد وأنت، أنت وأنا، وإنما نعثر على: أنا والملك، وأنت زيد، وأنا وأنت.
وعندما نظر النحاة في الضمائر رأوا أن "نحن" تدل على جماعة المتكلمين، إلا أن الملك والرئيس والعالم يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة، وكل من يلتمس في نفسه شيئا من تعظيم أو يتعالى يتحدث عن نفسه بضمير الجماعة، واستخدم العربي أسلوب الاختصاص افتخارا، فهو لا يرديد أن يخبر أنه من بني فلان، بل للفخر والتباهي، فقالوا: إنّا - بني فلان- نفعل كذا، ومنزلة المخاطب الاجتماعية كانت تؤثر في بنية الخطاب، فالعربي يخاطب بضمير الجمع من يشعر بقيمته وعظمته، فخوطب الملوك بأنتم، لكن سلوك اللغة سار بمسلك آخر، فتجد اليوم من يخاطب العامة، ما هي أخباركم؟ وكيف أنتم؟، والمخاطب ليس بأعلى منزلة من المتكلم، وفي أسلوب النداء، فالمسيطر أن يكون الخطاب باللقب أو الكنية، وقل ما وقع بصريح الاسم، فالمجتمع العربي القديم كان شديد الاحتفاء بالكنى والألقاب، وفي أسلوبي المدح والذم كان يميل العربي للمبالغة والانفعال فيهما.
وثانيها: تنوعات الجنس، وبنية التركيب؛ من المألوف أن يكون الرجل مقدما على المرأة، فليس الذكر كالأنثى، لذا العلاقة بين المذكر والمؤنث هي من أهم الملامح التي تظهر في مجريات اللغة، وثَم فوارق بين لغة المرأة ولغة الرجل، فأسلوب الندبة يكاد يكون قصرا على استخدام النساء.
وأفرط العرب في الفصل بين المذكر والمؤنث، وأسست النظرية النحوية على تمايز بين المذكر والمؤنث في الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة، وإسناد الأفعال، وتطابق المترابطات التركيبية كالمبتدأ والخبر والصفة والموصوف...، وما ورد من صفات مشتركة نحو جريح وذبيح وقتيل وصبور...، وحبيب وعاشق... يمكن رده إلى إيقاع عادات المجتمع، وكأنها أول ما نشأت كانت رجولية، فالجريح من مخلفات حروب الرجال، وعاشق مما استأثر الرجال أن يفخروا به، وكان عار على المرأة أن يفتصح عشقها، وهناك ما كان اختصاصه بالمرأة، فلم يكن بحاجة لعلامة فارقة، مثل طالق وكاعب وناهد ومرضع وحائض، وتسعف سياقات الكلام على التمييز بين الرجال والنساء إن توحدت صيغة الإسناد في مثل يدعون وتعفون، واستخدمت (مَن) للعاقل من الطرفين، وقليل ما تأتي النصوص المكتوبة بالتأنيث في صلتها، في الموصول أو الشرط أو الاستفهام.
وأسلوب الترخيم قد تخلق مختصا بأسماء النساء، وكأنه بعض تحفظ على التصريح باسم المرأة كاملا، كما كثرت أسماء الإشارة للمؤنث خسية من إظهارها، فقالوا: ذي، وذه، ذهي، وذات، وتي، وتنوعت علامات التأنيث؛ التاء والهاء والألف المقصورة والممدودة، والكسرة والياء والنون.
والتمايز أتى من عادات المجتمع، وضاقت العربية عن ستره، فغلب المذكر المؤنث، وهذا يعود لدرجة حضور المذكر في المجتمع، والمذكر أصل المؤنث: فالعربية تلحق المؤنث علامة تميزه عن العربية، وما يحتاج علامه، فهو فرع، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث، أوجبت العربية غلبة المذكر في الإخبار عنهما، نقول: الرجل والمرأة قاما، وزيد ونساء الدنيا هم الناجحون في أعمالهم، وفي صيغة التثنية للمذكر والمؤنث تجعلها العربية مع المذكر، نقول: الأبوان، الوالدان، الأذانان (الأذان والإقامة)، الفراتان (دجلة والفرات)، ويغلب المذكر في اجتماع العاقل مع غيره، نقول: زيد وإبله قادمون، ويخرج المؤنث من جمع المذكر، نقول: حضر المعلمون إلا سعاد، وجاء الوزراء إلا فلانة، ولا نقول: جاء المتسابقات إلا زيدا، ويختزل غير العاقل في العاقل، نقول: جاء القوم إلا حمارا، ولا يختزل العاقل في غيره، فلا نقول: بيعت الدواب إلا زيدا، وفي الإضمار الواجب يقدر الضمير مذكر، نقول: نجحت الطالبات ليس هندا، التقدير هو أو الناجح، وأبت العربية أن تنزل ما لا يعقل في خصوصية الجمع، فما يجمع مذكر سالم قصر على العاقل وصفاته، وتجذرت هذه الصيغة في أعراف الناس، فماتت كثير من ملحقات جمع المذكر السالم عدا ألفاظ العقود، وما بقي جمع بطرائق أخر، فقالوا: سنوات، وأراض، وعوالم، وعضات، والعربية تجترئ على تذكير المؤنث، فخلعت علامة التأنيث إذا فصل عن فعله، جاء اليوم هند، وتركت علامة التأنيث مع جمع المؤنث السالم، نقول جاء الطالبات، وذكرت العربية الفعل مع المؤنث المجازي، نقول: طلع الشمس، وتوجب العربية تذكير الفعل إذا فصل المؤنث بإلا، نقول: ما ينجب إلا هند، وما يحيض إلا ليلى، وفي قواعد العدد، إذا حذف المعدود، يغلب المذكر العاقل على المؤنث، نقول: سبعة وثمانية، وخمسة عشر، وستة عشر، وإذا كان المعدود مختلطا، يغلب المذكر العاقل المؤنث، نقول: في القاعة خمسة عشر ما بين رجل وامرأة، ويغلب العدد المؤنث لغير العاقل المذكر، نقول: خمس عشرة ما بين جمل وناقة، وقيمة المذكر غالبة، فالعربي يعنى بعدّ أبنائه، وأبناء عشيرته وفرسانها، وقلما قصد لعدّ النساء، ومن يسأل عن عدد أبنائه، لم يشمل الإناث في إجابته، وما لا يعقل قيمة المؤنث أعلى من قيمة المذكر، مائة نعجة يكفيها كبش واحد، ويحتفظ البيت بمائة دجاجة ولا يحتفظ إلا بديك أو اثنين، ومن البهائم ما يعد الإناث، فالإناث يحتفظ بهن، أما الذكور يتم تهيئتها للذبح، والتذكير والتأنيث في الأعداد، هو أمر شكلي لا يتجاوز اللفظ، أو كأنه شيء حيادي لا يعتد به ولا يؤثر في التركيب، نقول: حضر سبعة طلاب، وحضرت سبعة طالبات، الملاحظ مطابقة الفعل للمضاف إليه، ونقول: سبعة معلمين حضروا، وسبع معلمات حضرن، فالضمير في الخبر طابق المضاف إليه، ولم يطابق المبتدأ، والمجتمع العربي يتجنب ما أمكن التصريح باسم المرأة، فالعرب لم تكن تستحب التصريح بأسماء النساء، وكانت تكني، تقول: ابنة فلان، وزوج فلان، وأخت فلان، فذكر اسم المرأة كان غريبا عند العرب، والأمر ذاته ينسحب على الأسماء الأعجمية، فهي فاقعة الدلالة يوم دخولها الأول، ولا يوجد صفة مذكرة أو مؤنثة تمنع من الصرف، وهي آخذة العلامة الرئيسة الفارقة بين الجنسين، فالصفات الممنوعة من الصرف كلها تخرج عن أصول التأنيث بالتاء؛ فلو قلنا: رأيت سكرانه، فإن الوقف عليها، يقربها من المذكر، رأيت سكرانَ، فقالوا للمؤنث سكرى حتى لا يلتبس المذكر بالمؤنث.
وننتخب شيئا مما تتحكم به ظروف الناس وعاداتهم؛ في أسلوب النداء كثر استخدام يا بن أمّ، ويا بن عمّ، هذا في سياق قولهم لمن لا يعرف، ولمن لا رحم بينه وبينه، وهذا انحراف في معنى التركيبين عن الدلالة المباشرة، فلم يؤثر العربي هذا عبثا، فلم يقل: يا ابن أبي، أو يا ابن عمتي، وفي النداء جاءت العربية بسب الأنثى، قالوا: يا لكاعِ، يا فساقِ، يا خباثِ، ولم تبال بالتشابه العارض بينه وبين المضاف لياء المتكلم: يا فلاحِ، يا صاحبِ، يا نجاحِ، وفزع العربي للذات الإلهية في جاهليته، وفي إسلامه، اللهم، يا الله، تالله...، وكثر توجه العرب لمكة والشام، فحذفوا حرف الجر، قالوا: ذهبت مكة، وذهبت الشام، وهناك ألفاظ مسموعة نابت عن الظروف، قالوا: أزورك مقدم الحاج، وصلاة العصر، وطلوع الشمس، وخفوق النجم وتقلبات الحياة كان لها دورا في التراكيب السماعية، قالوا: سقيا ورعيا وجوعا وجوسا وتربا...، ونلحظ أن السابق ما عاد ذائعا الآن.
وامتثل النحاة لمعطيات الوقائع الاجتماعية، واستنطقوها لتأسيس أصولهم، فالنظرية النحوية تأثرت بأعراف المجتمع، وفي الوقت نفسه عملت النظرية على الانحراف ببعض التراكيب عن ثابت وضعها، فنهض لهذا رجال، وهم في جملتهم من بيئة ثقاقية غاية في الوقار، وهم من أهل الفقه والذكر، تفحصوا سياقات الكلام وملابساته، وسمعوا كلام الرجال والنساء والأطفال، كل هذا أثر في مجريات النظرية النحوية، فرواية الشواهد وتفسيرها، وصياغة الأمثلة وتوجيهها تنطق بإيقاع بيئة رجولية، منغمسة في مثالية أعراف المجتمع كاشفة عن بعض مستورها، ومن أنماط تحكم النحاة ببعض التراكيب؛ بيئة النحاة نفرت أن تحكي أو تثبت ما فيه من ألفاظ الجنس الصريح، فتخلصت من بعضه بتبديل الرواية، وأنشد سيبوية:
"فإنك لا تبالي بعد حول أظبي كان أمك أم حمار"
هذه الرواية سلبت البيت معناه، فالرواية الحقيقية هي: ...ناك أمك أم حمار.
ويقال: ابنا عم، كل واحد منهما يقول لصاحبه: يا بن عمي، ويقال: ابنا خالة، لأن كل واحد يقول لصاحبه: يا بن خالتي، ولا يصح أن يقال: هما ابنا خال؛ لأن أحدهما يقول لصاحبه: يا بن خالي، والآخر يقول له: يا بن عمتي، فاختلفا، ولا يصح أن يقال: هما ابنا عمة، لأن أحدهما يقول لصاحبه، يا بن عمتي، والآخر يقول له: يا بن خالي، والقسم بغير الله كان شائعا في جاهلية العرب، فأولوا ما بدا خارجا على معهود العقيدة.
وهناك أنماط تركيبية تظل مغلقة، كشفتها ملابسات العرف الاجتماعي، وهذا العرف لعب دورا في توجيه جملة من التراكيب التي فيها لبس، فكثير من القضايا التفسيرية تربط أعراف المجتمع وموجهات النظرية، من مؤكداتها؛ قالوا: مررت برجل رجلٌ أبوه، تريد رجلا واحدا لا أكثر، وهذا السياق لم يأت لولا مجتمع انتشر فيه اللقطاء، والدخلاء من النسب من أولاد الغانيات، فالإشارة أنه ابن رجل واحد، لا يستقيم إلا إذا كثر اللقطاء في المجتمع، وإذا كان الثمن ثابتا، ومقدار السلعة متغير، قالوا: جاء البر صاعين، ترك ذكر الثمن، لكثرة المعاملة فيه، ولمعرفتهم إياه، ومن لا يألف هذا البيع ظن أن صاعين شيء من الدراهم، وكان المجتمع ينظر للعبيد نظرته لمتاعه أو بهائمه، والتمثيل بالأحداث والمعاني السيئة لا يفارق زيدا إلا إلى عبد أو جارية، ولا تفارق المعاني عبد الله إلا إلى أمير أو خليفة، قالوا في زيد: زيد فاره العبد فاره الدابة، وقالوا في العبد: ضربي العبد مسيئا، وقالوا: ما لقيس والبُرّ تسرقه، كفانا هذا المثال لمعرفة أن قيسا لصوص وقطاع طرق، وهناك تحول ثقافي في النظرة للأشياء، قديما قالوا: مررت برجل حمار، هنا يحمل وجهين، قبيحا أو حسنا، فالقبيح أن تعني أن الرجل حمار، والحسن أن تكون قد غلطت أو نسيت فاستدركت، لكن في مجتمعنا، لو قلنا: مررت برجل حمار، بمعهود ثقافة هذه الأيام تعني بالحمار غبيا، وكانت العرب ترى في البهائم محمود طباعها، فلم تدخل في سياق السباب، وكيف يكون ذلك، وقد تسمون بجحش وكلب وثور، وقالوا: كل سمكا لبنا، أي أو لبنا، لأن الشعوب وقتها توافقت على أن لا جمع بين اللبن والسمك، ورجولية الدرس النحوي جعل العرب يينسون المرأة في أمثلتهم، فالأمثلة المنطوية على التأنيث لا تكاد تذكر، فتذكر هند مرة، ويذكر زيد أو عبد الله مئات المرات، فمثلا في دروس الحال والصفة والمبتدأ والخبر، والعدد،، والفعل والفاعل يجيء النحاة بمثال على التأنيث لملمح التطابق، وإن القاعدة لا تستدعي التطابق، يصرفون للجهد في أمثلة خاصة للمذكر، كدرس كان، وإن، وظن، والاستثاء، والمفاعيل والشرط والاستفهام...
وبشأن التحول الاجتماعي والتغير اللغوي؛ ماتت كثير من الألفاظ بسبب تغير الأعراف الاجتماعية، فألفاظ الكيل والمساحة منها ما هو صار مستغلق المعنى( الفرسخ والغلوة والبريد، والكر والمنا، وبعضةملحقات جمع المذكر السالم (ابلين واحرين)، وأمثلة التوكيد ( أبتعين أبصعين)، وكثير من الأساليب التركيبية اندحرت لحد الموات بسبب تغيب عادات، فأثر العامل الاجتماعي فيها واضح، وهناك اساليب انحرفت عن دلالاتها وسياقاتها، وصارت مألوفة.
و ما أقره النحاة آت من عوامل اجتماعية، وجلها مات، وظل ما هو هو موصول بحياة الناس، فلا متسع في حياتنا لسقيا ورعيا، وتربا وجندلا، وجدعا وعقرا، وجوعا وجوسا، ولكن هنيئا مرئيا تحيا في الفصيحة والعامية، وما أبعد الفرقدين والنيّرين عن ظروف هذا الزمان، وللناس في هذا الزمان مسباتهم، يقولون: يا بن فلانة، ويا حيوان، وتسب الأنثى ب يا مفعولة وأخواتها من ألفاظ الفحش والرذيلة، ولا معنى عندنا اليوم ل يا فساق، يا فُسقُ، يا لكاع..
واختفت يا بن أمّ، وغلبتها يا بن أخي، والعربية لا تجيز حذف حرف النداء مع المعرف بأل، ولكن كثرة المخاطبات أسقطت (أيها)، قالوا: الحفل الكريم، السادة الحضور، ويقصر كثير في ضبط هذا الأسلوب فينصبون، والحق الرفع، وما ينصب على الاختصاص أفرغ من مضامين الفخر، وصرنا نجده غير مفصول بترقيم، نحو: نحن - العرب- أقرى الناس، والنعت الذي يقطع لرفع أو نصب لم يعد يستخدم الآن، نحو: مررت بزيد، المسكينَ أو اللعينُ، مجهول الآن، وصار كثير من التراكيب مألوفا لدينا، هما ابنا خال، هما ابنا عمة، وحملت مررت برجل حمار على النعت الحقيقي، وقالت العرب: أبو بكر وأبو حفص وأبو عمرو للأبناء في الصغر، دون أن يكون لذلك علاقة بالابن البكر، وهي الآن تدل على الأب وابنه.
وأمثلة النحاة صرفت للمذكر، والمرأة كانت مغيبة عن الحالة الثقافية، وحين عادت المرأة للإسهام في الحياة العامة، لم تسهم في إحياء خصوصيات التأنيث، ولتوجيه بعض الانحرفات التركيبية مما هو من وقائع التذكير والتأنيث، رأى د. محم الرباع أن تجمعها هذه الفروع؛ أولا إسناد الأفعال؛ قالوا: ارمِ، ولم ترمِ، في العبارات الموجهة للمرأة، وكأنهم قد غلبوا قاعدة المذكر، أو أنسوا بدلالة الكسرة على التأنيث، وأخذوا بوهم الرجولة عند غياب التصريح بجنس المخاطب، فإن عثروا على: صلي على النبي، اشتري هذه السلعة، أدخلوها مدخل خطأ، وآثروا إلغاء نصف المجتمع، ولكن في قولهم: اشتري مساحيق التجميل، فهذا من لوازم المرأة، وقولهم: صلي على النبي صحيحة لدرء الحسد، ففي الاعتقاد أكثر ما يكون من النساء، فالياء موصولة حسب اعتقاد المجتمع، وانزلق المتعلمون في تحويل كسرة الضمير إلى ياء، فقالوا: أنتِ أخذتيه، وقالوا في منزلق: الطالبتان سعتا ورمتا، إذ تجيء سعيتا ورميتا، ووحدت صيغ المذكر والمؤنث في مثل: يعفون ويدعون، ولكن المتعلمين جاءوا بالياء، فقالوا: أنتن تدعين وتعفين، وفي مثل أنتن تدعون، جعل المتعلمون الفعل محذوف النون إذا دخل عليه ناصب أو جازم.
وإلحاق علامة فعل المؤنث تعددت، ولكن الاستخدام المعاصر آثر التخلص من هذا التعدد؛ قالوا قديما طلع الشمس، اليوم قالوا طلعت الشمس فقط، لا بالوجهين، وما كان جمع غير سالم استقر على وجه واحد بناء على أصل المفرد، جاء القضاة، حضر الطلاب، فاز الرجال، وما يكون جمع مؤنث يؤنث فعله، جاءت النساء، وشربت الأبقار، وقطعت الأشجار، وإذا منعت القواعد إلحاق التاء فعل المؤنث المفصول عنه بإلا، نحو: ما جاء إلا هند، ولكن الناس توافقوا على إلحاق التاء، ما جاءت إلا هند، وما تفلخ إلا بشرى.
و المرأة العربية في سلوكها اللغوي تميل للتخلص من ملمح الأنوثة، فتقول: أنا سامع، أو آسف، أو فائز، ولست مسؤولا، والمرأة لا ترغب بالكشف عن جنسها، ما أكثر أن نجد: هند هي المسؤول، الدولة هي المتحكم، هي الممول، وفي صيغة الجمع نجد، على لسان المرأة: نحن جاهزون، وفي الإخبار: الطالبات نجحوا، وفي الاستفهام: أين كنتم؟ وما هي أخباركم؟، ومن لا يعرف أصول العدد، يميل إلى تأنيث العدد مفردا ومركبا، بصرف النظر عن جنس المعدود، يقولون: سبعة طلاب وسبعة طالبات، خمسة مدن، وخمسة بلدان، خمسة عشر دولة، وخمسة عشر بلدا.
و يندرج تأنيث الألفاظ وتذكيرها في صنفين متمايزين: الأول: التأنيث بالتاء مقابل التذكر، والثاني: علامة التأنيث غير التاء، والمذكر الملفوظ بالتاء، واللفظ للمذكر والمؤنث بصيغة واحدة... فالصنف الأول هو الكثير، والثاني يمثل أصنافا قليلة الصيغ.
وهناك جملة من المتغيرات في أحكام التذكير والتأنيث منها؛ الميل لتذكير ما كان مؤنثا بلا علامة، نحو: الإصبع والسن والدماغ والبئر، والكرش والحال واليمين، يقولون: كسر الإصبع، وخلع السن، صحيح أن القاعدة النحوية تجيز تذكير الفعل مع هذا النوع من المؤنث، هم قالوا هكذا لامتثال ظن التذكير، والميل لاقحام علامة التأنيث على الألفاظ المؤنثة التي تجيء وصفا للعاقل، فجريح وقتيل ومريض وصبور، يلحقونها بالتاء، بل ألحقوا التاء بما هو صفة خاصة للأنثى، كطالق ومرضع، وما يدل على الواحد من الجنسين أوجدوا له بالتاء أنثى، فقالوا: بغل وبغلة، وعجل وعجلة، وموت مجموعة من الصيغ أو خف استعماله، ما كان من صفات المذكر بعلامة تأنيث كفهامة وعلامة ولحانة، والتذكير والتأنيث متروك للمضاف إليه أو لشبه الجملة، فإن جاء مذكرا ذكر اللفظ، وإن جاء مؤنثا أنّث، قالوا: جاءت بعض الطالبات، ومضت ربع ساعة، ومجموعة من الطلاب جاءوا.
وأعراف المجتمع كانت ذا أثر فاعل في توجيه مسيرة العربية، والتجاذب بين المنزلة الاجتماعية وبنية الخطاب، وأعراف المجتمع أمتد أثرها للنظرية النحوية، فصار هذا موجها لأصولهم وتقعيدهم، وفي عصرنا هذا هناك مظاهر من التغير اللغوي، لانحراف الناس لما كانت عليه......