عاجل
السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الادارة
رجب رزق
رئيس التحرير
سامي خليفة
الرئيسية القائمة البحث

بالصور.. رحلة إلى عالم أديب نوبل "النجيب" محفوظ.. حكايات بدأت من الجمالية.. وعاشت في زقاق المدق وشارع المعز وازدهرت على أبواب بيت القاضي

قهوة زجاج زقاق المدق
قهوة زجاج زقاق المدق

في البداية تعتقد أنك ذاهب إلى مصر القديمة حيث منطقة الحسين بمسجده الشهير ومقامه الذي يأتي رواده من كل صوب وحدب، ومنطقة الغورية والجمالية والدرب الأصفر، ذات الشوارع والحواري والأزقة الشهيرة، كشارع المعز لدين الله الفاطمي وخان الخليلي وبيت القاضي، وحواري برجوان والصالحية والصنادقية، حيث توجد بعض الأزقة الشهيرة كزقاق المدق وزقاق الدرب الأصفر، وميدان باب الفتح، وحواري باب النصر، إلا أنك حينها قد يلتبس عليك الأمر، فقد تغيرت وجهتك دون قصد، فأنت الآن في أحد عوالم "النجبيب" نجيب محفوظ، الأديب العالمي الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1988م.

إن مناطق الحسين والغورية والجمالية بحواريها وأزقتها ومقاهيها، لم ولن لتكون وتحيي كما أحياها "النجيب"، وبكل تأكيد لا يقطعه أي شك بأنها مناطق لم ولن يكون محفوظ نجيبًا من دونها، فجميعها مناطق عاشت في قلب أديبنا العالمي، فخلدت في قلوبنا وقلوب كل من قرأ له، بعض المناطق خلدها محفوظ في رواياته المطولة، والبعض الآخر خلدها بقصصه قصيرة الصفحات بعيدة العمق والفلسفة والغايات، ولكن تبقى أعمال محفوظ التي أطلق لها العنان كي تحيي في وجدان الجميع، بأبسط البسطاء، تلك التي سمح لها أن تعرض سينمائيًا كخان الخليلي، والثلاثية "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، "وزقاق المدق"، "الشيطان يعظ"، "واللص والكلاب"، و"عصر الحب"، أو أعمال درامية تليفزيونية كحديث الصباح والمساء، وأخيرًا أفراح القبة والتي عرضت رمضان الماضي، بعد رحيل النجيب بـ10 أعوام، رحيلاً ماديًا غاب فيه عنَا بجسده، ولكنه ظل حيًا خالًد بيننا، في أسطور مؤلفاته وروايته، أو بما عُرض له من أفلام أو مسلسلات.

جائزة نوبل بدأت بحي "الجمالية"

ارتبطت أعمال النجيب الأولى بمسقط رأسه منطقة الجمالية، فظهرت بأعماله متجسدة في حواري ومقاهي المنطقة، بـ"مشرابيتها"، وفتواتها الذي يحفظون حقوق الضعفاء بالمنطقة أمام الأقوياء والأغنياء وأصحاب النفوذ، من خلال بسط نفوذهم بالشكل الأخلاقي، الذي يحفظ توازن المنطقة، وذلك ما ظهر في عمل الفتوات الأبرز، "ملحمة الحرافيش".

ورغم أن حياة "النجيب" بالجمالية لم تتجاوز مرحلة الطفولة منتقلًا إلى منطقة العباسية الشرقية، إلا أنه علم أن روحه قد استقرت بين شوارع وحواري مصر القديمة وما تحمله من عبق التاريخ، فانتقل ماديًا وجسديًا مع أهله إلى العباسية الشرقية، ولكنه ظل باقيًا بمنطقة الجمالية والغورية وجميع شوارع وحواري المنطقة، متنقلًا بين مقاهيها، فكانت انفراجة "النجيب" الأدبية من هنا، رغم أن أدبياته حملت العديد من القصص المتعلقة بالعباسية أو غيرها، إلا أن قصص وحكاوي حواري الجمالية والحسين، غلبت على أجل أعماله، وكانت الأكثر قيمة وخلودًا.

"خان الخليلي"

خلال جولتنا في شارع خان الخليلي الشارع الأبرز والأشهر بمنطقة الحسين، والذي يعتبر مزارًا سياحيًا هامًا لكل من أراد اقتناء تذكارًا مصريًا خالصًا، كان الشعور الغالب عن الاستمتاع بجمال الشارع ورائحته الذكية المعروفة والتي خلدها التاريخ وحفظها أهالي المنطقة، هو أحداث فيلم "خان الخليلي"، فكيف وجد النجيب، شخصية الأستاذ "أحمد" التي جسدها العبقري "عماد حمدي"، وكيف حصد "محفوظ" قصة الفيلم بما تحمله من أوجاع وأحزان، وتاريخ سياسي لمصر أثناء فترة الاحتلال من هذا الشارع الجميل، وكيف وجدت الفنانة "سميرة أحمد" بين أولئك الفاتنات الجميلات، فجعلها لب الفيلم التي يتنازل عنها بطله لأخيه "حسن يوسف" الذي أضناه المرض حتى أماته، ببساطة شديدة لا تسأل عن ذلك، فإنه "النجيب" نجيب محفوظ.


"زقاق المدق"

من شارع المعز لدين الله الفاطمي، تقع حارة "الصنادقية" المميزة بمحلاتها المتعاقبة صغيرة الحجم، ومن حارة الصنادقية يتفرع زقاق صغير جدًا، في الأغلب أنك لن تراه من الوهلة الأولى، إنه "زقاق المدق" الذي لن تراه بسهولة، ولكن "النجيب" جعله ظاهرًا حتي صار بطلًا مشهورًا، فأوجد "حميدة"، الفنانة شادية بجمالها وعبقريتها التي تشعر بضيق الزقاق عليها وعلي تطلعاتها وطموحاتها، فتسعى للخروج منه بأي شكل حتى وإن عملت مع قواد، فأظهر "النجيب" الزقاق للمشاهد على ما هيته الحقيقية، بمقهي المعلم "كرشة"، والوكالة، وفرن "جعدة"، ومحل بسبوسة الحاج كامل، وصالون حلاقة عباس الحلو، ومشرابية الجميلة شادية التي قضت بجمالها على كل من في القصة، حتى وجدت نفسها ليست بالشخص القادر على الخروج من زقاق هي جزء منه بالأساس.

"زقاق المدق" في عصرنا الحالي، قد تغيرت معالمه كثيرًا وتدهور أحوال مسكن شادية كثيرًا، لكن الفرن والمقهى والوكالة لا تزال قائمة، بالرغم من تغيرات العصر علي المنطقة فإن المقهي الذي جلس فيه النجيب، محل الشيخ درويش "حسين رياض"، كان طريقًا لتجسيد ملحمة إنسانية واسعة الأفق من ذلك "الزقاق الضيق، الذي اختنقت به ومنه الجميلة "شادية".

"بيت القاضي"

ثلاثية نوبل "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"
منطقة واسعة تتفرع بحارة صغيرة من شارع المعز لدين الله الفاطمي، واقعة في الجزء الخلفي لمسجد "المعز" بساحته الواسعة، رغم أنها منطقة واسعة نسبيًا، إلا أنها تنقسم إلى عدد من الحواري الضيقة الواقعة بجوار منطقة الجمالية من الناحية الأخرى لشارع المعز، وذلك أمام "قسم شرطة الجمالية" القديم.

من هذه المنطقة "بيت القاضي"، كتب "النجبيب" سلسلة المواريث، أو شجرة عائلة كما رغب، فعايش عائلة الحاج أحمد عبد الجواد في ثلاثية من ألف ورقة هي بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، وهي أعمال خالدة علي المستوي الأدبي أو السينمائي أو الدرامي، حيث الفنان محمود مرسي والفنانة هدي سلطان، وببيت القاضي عايش "نجيب" ياسين وكمال، وودع فهمي الذي قُتل في تظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، ومن بيت القاضي أخذ "النجيب" حقه في التفرد كأديب مصري عالمي، ورائد في الفكر والفلسفة والأدب، مستحقًا ما ناله بعد ذلك بـ"20" عامًا، جائزة النوبل العالمية في الأدب.

وفي منطقة بيت القاضي، كان يسير الفنان "يحيى ىشاهين" بقوته وجبروته في دوره الشهير والأبرز "سي السيد"، السيد أحمد عبدالجواد، الذي يخشاه أبناؤه لمجرد ظهوره بحارة "قرمز"، فيجرون على أمهم "الست أمينة"، التي يغضب منها زوجها لمخالفة أوامره بالطاعة وعدم الخروج من المنزل، رغم أنها خرجت لزيارة إمام "سيدنا الحسين"، الذي يعتبر بمفهوم العصر الحالي، "على أول الشارع"، ولكن سوء الحظ قد أصابها في قدمها، حيث اصطدمت بالـ"سوارس".

"العطوف"

هي المنطقة المجاورة لبيت القاضي، بجوار سور الحصن الذي يحيط بالمنطقة ككل، فاصلًا بين ضواحي العباسية، "باب الشعرية" و"ميدان الجيش"، والمنطقة العريقة منطقة مصر القديمة، حيث مدخل الحصن وميدان "باب الفتح"، ولم ينسَ "النجيب" تلك المنطقة من قصص ورواياته، فظهرت بقوة من خلال مجموعة قصصية تحمل اسم "فتوة العطوف"، فأظهر فيها تاريخ فتوات المنطقة، وصراعاتهم بين الصعود والهبوط، حيث تختلف قواهم اليوم تلو الآخر، فأظهر ما بينهم من صراع لا يتخطى كنة الصراع الداخلي، فلا يتجاوز الفتوة الحق ذلك مستغلًا قواه على أهالي المنطقة ضعفاء كانوا أم أقوياء.



"شخصيات" مستوحاة من منطقة الحُسين في عالم "النجيب"

استوحي "النجيب" نجيب محفوظ عددًا من الشخصيات، فأحسن ظهورها وكتب لها الخلود والحياة، فكان أبرز ما أظهره "محفوظ" هو شخصية "الفتوة"، موضحًا صراعات الفتوات حول كرسي "الفتونة"، ودور الفتوة المطلوب منه أداؤه على أكمل وجه، مظهرًا في بعض أدبياته، بعض الملاحم بين فتوات مناطق وأخرى، وكيف كان الأمن يعجز عن التدخل في بعضها، وكيف كانت نهايات بعضهم مذلة ومهينة، وكيف غير البعض الآخر نمط حياته ومهنته حتى يساير ركب الحياة وتطورها، وذلك وقت الرئيس "السادات" في عصور الانفتاح، التي غيرت معالم مصر كما يوضح "النجيب".

خلاف شخصية "الفتوة" تنوعت شخصيات "النجيب" في أدبياته، فأظهر المُعلم والمعلم، والراقصة، والسياسي، الوزير والملك والدبلوماسي، الفقير والغني و"الشحاذ" الذي أفرد له رواية خاصة به، القهوجي والدرويش، والعالم والعابد، وغيره كثيرًا مما يمنح الحق بفرض الظن بأنه لم ينس إنسانا على وجه الأرض بمختلف ميوله الدينية والسياسية والعلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية إلا وتحدث عنها، البعض في رواية مطولة سواء جزء من كل أو تفرد بمجمل الأحداث، وآخرون في قصص قصيرة أو هامشية، ولكنه لم ينسَ أحد مانحًا الكل الحق في التفكير والاختيار محترمًا بذلك حق الإنسانية، في التفكير والاختيار والحياة والثورة ورفض الظلم.

شكرًا "نجيب محفوظ"

قبل أن ترحل عن منطقة الحُسين، عليك أن تتأكد من رحيلك، فالبعض يرحل عن الأماكن ولم يتأثر، إلا أن "النجيب" أبي أن يغادر المكان دون أن يحمل رسائله وقصصه وحكاويه، فلم يكتفِ بتوثيق الحدث وقت حياته، لكنه كتب بيده وقلمه ما منح منطقة بالكامل الخلود، حافظًا حق أهلها في التفكير والتعبير، مخلدًا حياتهم وأعمالهم وحرفهم البسيطة، كاتبًا بيده ما منح المكان خلودًا خاصًا، خلودًا محملًا برائحة النجيب "نجيب محفوظ"، فشكرًا منطقة الحسين، وشكرًا نجيب محفوظ.