"عبدالرحمن الكواكبي".. عدو الاستبداد والاستعباد.. روح ثائرة تسعى إلى الكمال
عُرف عبدالرحمن الكواكبي، بروحه الثائرة التي تسعي الي الكمال، والحق، والعدل، وتطبيق سائر الصفات الإلهية، فأطلق عليه عدو الظلم، وقاهر الاستبداد.
فإرادته الصلبة التي لا تتوانى عن مواجهة الظالمين وفضح المستبدين، وعزمه الذي لا يلين في نصرة الضعفاء والمظلومين، وعقله المتوقد بنور العلم المتبصر لدقائق الأمور، جعل كلماته عن الظلم ونبذ العنف تخلد إلي الآن في كتابه "طبائع الاستبداد ومصائر الإستعباد"، فيقول: "الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح -كذلك- النُّصْح فضولا، والغيرة عداوة، الشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحيل كياسة والدنائة لُطْف والنذالة دماثة!"
الأصل والنشأة
ينتسب أبوي الكواكبي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب؛ فنشأ على خير ما تكون النشأة في بيت علم وفضل، في حلب الشهباء بسورية؛ وبرغم وفاة والده وهو في السادسة إلا أن الله عوضه بخالته صفية، التي انتقل للعيش معها بإنطاكية، وهناك التحق بمدرسة نجيب النقيب وهو أحد أقارب والدته؛ فتعلم التركية وأتقنها، ومرت فترة وهو يتنقل بين حلب وإنطاكية طلبا للعلم، فلما بلغ الثانية والعشرين التحق كمحرر بجريدة كانت تصدر باللغتين العربية والتركية تسمى "فرات"، وكانت تعتبر الجريدة الرسمية لولاية حلب، وبرغم أنه كان يتقاضى راتبا جيدا إلا أنه لم يطق قيود الكتابة في الجريدة التي كانت تحت إشراف الوالي التركي؛ فتركها وأسس هو والسيد هاشم العطار صحيفة الشهباء التي صدر منها خمسة عشر عددا ثم صدر بحقها قرار إغلاق بأمر كامل باشا القبرصي، الذي سيصير فيما بعد صدرا أعظم للدولة العلية، ومن الواضح أن الصحيفة وما حوته من مقالات الكواكبي وصاحبه كانت قد ألهبت ظهور الأتراك بسياط النقد اللاذع بسبب تردي الأوضاع وانتشار المظالم، لكنه لم يستسلم وعاود العمل الصحفي من خلال صحيفة أخرى هي الاعتدال، التي ما لبثت أن أغلقت بأمر من جميل باشا، الذي سيصير عدوا لدودا للكواكبي لفترة ليست بالقصيرة.
مقاليد ومناصب
تقلد قاهر الإستبداد العديد من المناصب منذ جاوز العشرين من عمره، وإلى أن هاجر إلى مصر، إذ عين عضوا بلجنة المعارف ولجنة المالية ولجنة المقاولات، ثم رئيسا لقلم المحضرين، ثم عضوا باللجنة المختصة بامتحان المحامين، ثم عين مديرا فخريا للمطبعة الرسمية بحلب عام 1881، ورئيسا للجنة الأشغال العامة، وعضوا بمحكمة التجارة، وفي العام 1892 عين الكواكبي رئيسا للغرفة التجارية، وللمصرف الزراعي، وبعد ذلك بأربع سنوات أصبح رئيسا لكتّاب المحكمة الشرعية، ورئيسا للجنة بيع الأراضي الأميرية، وكان في الثانية والأربعين من عمره؛ ولكنه كان يضيق بهذه المناصب ويستعفي منها جملة ليتفرغ لكتابة شكاوى المظلومين ورفعها إلى الباب العالي كما حدث في العام 1886 إذ حرر عددا كبيرا جدا من الشكاوى والتظلمات ضد الوالي التركي بحلب ورجاله، مما اضطر الدولة العثمانية إلى إرسال لجنة خاصة لبحث تلك التظلمات والشكاوى للعمل على تهدئة الأوضاع التي كانت على وشك الانفجار.
مواجهة الاستبداد
لم تنس السلطة الاستبدادية له مواقفه تلك، ففي أول فرصة ألقت القبض عليه وأودعته السجن لبضعة عشر يوما بعد محاولة اغتيال فاشلة لجميل باشا قام بها أحد المحامين الأرمن، ولكن ثورة الشعب أجبرت السلطات على إطلاق صراح الكواكبي بل وتعيينه رئيسا لبلدية حلب، لتتأجل المواجهة بينه وبين السلطة إلى أن يقوم أحد رجال السلطة ويدعى عارف باشا بتزوير بعض الوثائق حتى يدين الكواكبي بتهمة التخابر، وتم عمل محاكمة هزلية له بحلب أمام قاض عُرف عنه عدم ممانعته في تلقي الرشا؛ فحكم عليه بالإعدام، فثارت ثائرة الشعب بصورة غير مسبوقة مما اضطر السلطات لإعادة محاكمته أمام محكمة بيروت التي قضت ببراءته وأثبتت زيف الوثائق المقدمة ضده؛ فعاد إلى حلب مرفوع الرأس بعد غلب سطوة المستبد وكسر شوكة غروره.
رأى الكواكبي بعد ذلك أن بقاءه في حلب، أصبح محفوفا بالمخاطر، كما أن التضييق عليه أصبح مانعا له من ممارسة نشاطاته الهادفة إلى كشف طبائع الاستبداد وفضحه أمام العامة بقصد تثوير وعيهم وحشد جهودهم لمواجهة المحتل العثماني الظلوم، فقرر السفر إلى مصر والإقامة فيها.
وفي القاهرة استقبل الكواكبي استقبالا حافلا من ثوار مصر ومثقفيها، واستقبله الخديو عباس حلمي الثاني، وقرر له راتبا، ثم ما لبث أن ذاع صيت مقالاته التي كانت تنشر في جريدة "المؤيد"، والمرجح أن الكواكبي جمعها بعد ذلك وعمل عليها بالإحكام والتنقيح حتى أخرجها في كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
ثم قرر أن يقوم برحلة إلى بلاد إفريقيا وبعض بلدان آسيا ليرصد عن قرب أحوال تلك الشعوب وطبائعها، وتدوين ما جره عليها عسف الحكام وظلم المستبدين، ويعتبر الكواكبي من أوائل الداعين إلى القومية العربية وضرورة قيام الوحدة بين الأقطار العربية لمواجهة أعداء الأمة وخاصة الأتراك.
رحيل "الثائر"
ألهب الكواكبي روح الثورة في النفوس، بالقاهرة ضد الدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد الثاني، الذي لم يطق صبرا على تلك الحرب التي كادت جذوتها أن تطاله في اسطنبول؛ فقرر التخلص من عبد الرحمن الكواكبي؛ فأرسل له من وضع له السم؛ ليلقى الكواكبي ربه شهيدا بعد ثمانية وأربعين عاما من النضال ونبذ الإستبداد.