إنها حقا فجوة زمنية
منذ الصغر كنت أتمنى أن أكبر ولكن حينما كبرت تمنيت أن لا أكون كبرت، كلنا مررنا بهذه الأمنية ‘ تلك الأمنية التي تختصر فيك نظرتك للأمل في تلك الحياة ولكنني حين كبرت رأيت أنه ‘كان يا ما كان لم يعد أحد كما كان، كنت ومازلت أعشق زمان، كنت ومازلت أتوق للزمان، كنت ومازلت أعشق كل ما هو مقدس وقديم من هذا الزمان، كنت ومازلت أرى اختلاف بين الأزمان، حقيقة لا يمكن إنكارها أبدا.
زمان كم كنت أرى أن أخلاق هذا الزمان كانت قد تعدت الحدود، كنت أقول بيني وبين نفسي أن هذا كم كثيرا من الأخلاق، كم كنت أبغض تجمع العائلة بل ومن حين لأخر كنت أهرب منها، كم كنت أتوق للتكنولوجيا وأن الحياه بها ستزدهر، كم كنت أقول أن التفتح في العقول سيجعلنا أنضج وأوعى وأقوى، ولكنني حين كبرت كنت من أوائل الناس التي علمت إننا من أولى البلاد التي إذا رجعت إلى أول الزمان تقدمت، فيالها من فاجعة.
البيوت، الشوارع، الحدائق المباني، الطابع المصري، الناس كلهم رأيتهم أجمل، كم تمنيت أن أكون في جيل الستينات والسبعينات حينها كنت سأكون ذات المودموزيل التي ترتدي التنورة والشينيون والجوانتي مع الكعب الصغير كنت سأرى هدوء الشارع اذا مررت على المارة، كنت سأرى نظافة الشوارع، كنت سأرى أساليب الناس مختلفة حتى في الكلام، كنت سأرى كم السلام الذي يوجد بالناس كنت سأرى ذلك الشهم الذي يقف بجوار بنت الحي الذي يقطن فيه، كنت سأرى هيبة كل تعليم، كنت سأرى كم كنا في رخاء، كنت سأرى حتي الطعام المختلف الطبيعي ولم يكن به كيماويات، كنت سأرى ذلك الشاب الذي يتحدث بكل لباقة مع زميلته في الجامعة، كنت سأرى كتبا كثيرة داخل كل بيت، كنت سأرى كم كان نقاشنا رائعا ونتائجها شاملة،كنت سأرى إلتفافنا حول بعضنا البعض لمشاهدة مسلسل التاسعة، كنت أرى كم كانت الالفة بين الجيران، كم كانت الألفة بين الأديان لا فرق بين المسيحي واليهودي والمسلم، كنت حقا سأزور حارة اليهود حينها لأرى كم السلام الذين يعيشون فيه مع بعضهم البعض، كنت سأرى الأب يستيقظ هو وابنه وزوجته لصلاة الفجر، كنت سأرى كم كانت النفوس صافية بين الأصحاب لا حقد ولا حسد ولا ضغينة، كنت سأرى الحب بعين أخر كنت سأراه بالمعني الحرفي للتضحية والأمان والاحساس الدافئ حتى الفن كان به إبداع ورقي، والأهم إنني كنت سأرى الطمأنينة، وراحة البال، وبساطة الناس، ونقاء القلوب، وصفاء النفوس، واحترام الكبير، والالتزام بالقول والفعل، وليس كأيامنا هذه، التي طغت فيها المادة، وساد الكذب في كل شيء، وانتشر الخداع، وغاب الحب، وتلاشت الصداقات الحقيقية، وانقرضت القيم الأخلاقية والإنسانية.
في واقع الأمر أنا لا أقدر على البعد بأفكاري لزماننا ودائما ما أفتش بين ثنايا ضحكات زمان، عن سعادتنا وبرائتنا وتأخذني الأحاسيس إلى أحلامنا، وأرى الثواني تمضي من أمامنا، ولا تزال نفس المشاعر فينا، ودفاترنا لا زالت مملوءة برسم طفولتنا ومقاعدنا لازالت تحوي دفء حكايات زمان، أصبحت حبيسة النفس لذلك الزمان ياله من عيشة تملؤها الرقي.
في حقيقة الأمر إنّنا لا نعرف القيمة الحقيقيّة للحظات العمر إلى أن تغيب في أعماق الذاكرة.
حقا أصبحنا في فجوة زمنية خطيرة وكأننا دخلنا الي مثلث برمودا، المثلث الذي يجعل كل شئ متغير ويقلب كل شئ راسا على عقب.
فهل تعود تلك الايام الخوالي؟
هيهات فذلك حلم بعيد المنال، فالزمان لن يعود الى الوراء، وكلما تقدمنا أصبحنا في وقت أشد وأصعب وأكثر تعقيدا وتوترا وضغطً نفسيا واقتصاديا، ولكنني حقا أتوق لأسلوب تلك الحياة، فهل من مهرب .!
فيا أيتها الطيور المسافرة والمهاجرة والمحلّقة في الفضاء الواسع والمرفرفة بجناحيك منذ ذلك الزمان، احملي على متن هذين الجناحين بعض من كلماتي وشعوري، احمليها واذهبي لذلك الزمان أبلغي له السلام وقولي له إنني لن أنساه.