السعادة
كنت على قناعة لوقت طويل من عمري، ومازلت، أن الله يعطيك الكثير من النعم في حياتك. انت تأخذ حظك ورزقك من الحياة غير منتقص لا محالة، وإن لم تدرك ذلك في حينه. وقد تمر عليك أعواما وأعوام وأنت واقع تحت ظن أن الله قد حرمك من أشياء كثيرة مهمة متع بها غيرك. وقد لا تنتبه أنه قد أعطاك من النعم الكثير، ولكنك لا تشعر بها لأنك اعتدت على وجودها، ولم تشعر يوما إنك قد تفقدها، أو تحرم منها ببساطة. ما يشغلك فقط أنك قد حرمت من شيئ تريده بشدة، وتري فيه كل السعادة بالنسبة لك. حتى تجد حرمانك منه محور حياتك وقدر مكتوب عليك، فتظل تنعي حظك وتظن أنك مبتلي ومحروم إلي نهاية عمرك.
وقد تنبهت لذلك، لسبب ما، في منتصف عمري تقريبا. فوجدت أنني مهما حاولت الحصول علي شيئ معين، أعتقد أنني أحتاجه بشدة لإكتمال إحساسي بالحياة والسعادة، لا أوفق في ذلك، أو تتعثر خطاي فأصطدم بالواقع وتقف المسيرة. إلي أن هداني تفكيري إلي حقيقة واقعة، أن النعم الكثيرة التي متعني بها المولي تستحق أن أحتفل بها وأستمتع بأيامي في ظلال هذا الرزق. وإن لم يكن ما أريده من نصيبي، فالأستمتع بما أنا فيه من نعم. وكذلك فعلت بعد أن ارتاحت نفسي للفكرة، فعقدت العزم علي ذلك ورضيت به بيني وبين نفسي.
ومبعث قناعتي بهذه الفكرة هو ملاحظتي لحياة الآخرين من حولي. كل منهم يحمل عبئا ثقيلا في حياته لسبب أو لآخر وإن بدت حياته ظاهريا للآخرين سهلة منعمة هانئة، فيها كل ما يتمني المرء. قصص إنسانية كثيرة مرت أمامي، وقفت أمامها متأملة حكمة الحياة، فما وجدت حياةَ خالصة دون هم بصورة أو بأخري. وتذكرت الموال الذي يردده أهلنا في الجنوب "ولا حد من الهم خالي، حتي القمر في العلالي". ساعتها أيقنت أن السعادة قرار وعزيمة. فعقدت العزم أن أمضي في مشوار عمري أحقق السعادة وأبعث عليها بكل صورة من الصور، بدلا من أبحث عنها وأجري وراءها، وأشعر بالحزن والأسي لإحساسي بالحرمان منها.
ومن هنا بدأت رحلتي في تلمس سبل السعادة، طالما لا أغضب الله، ولا أطمع في ما متع الله به الآخرين من نعم. وكانت بداية هذا الطريق أن أكتشف الأشياء التي تسعدني، والأشخاص والأماكن والأنشطة التي تدخل البهجة على قلبي. بداية الطريق أن آخذ بأسباب السعادة، إلي جانب قراري أن أحصل عليها في حدود ما لدي من نعم. واكتشفت خلال هذه الرحلة أن أسباب الشقاء والتعاسة لا تكمن في الحرمان، إنها تكمن في الأفكار والطريقة التي يتناول بها كل منا تحديات الحياة، وكيفية تقييمنا لما نملك وما نستطيع وما نريد. أدركت ساعتها مغزي بيت الشعر الذي كتبه شاعر المهجر العظيم ايليا أبو ماضي، " دواؤك فيك ولا تشعر وداؤك منك ولا تبصر". وفي الحقيقة أنه قد أوجز فأوعي. مشكلة كل منا في رحلة الحياة هي التوازن بين ما يريد ويظن أن فيه الخير والسعادة، وبين ما أؤتي من نعم وأسباب، مقابل أفكار مجردة وقناعات جوهرها رؤيته لذاته وفكرته عن السعادة وأسبابها، وهي في الغالب آراء متأثرة بأنماط سلوكية سائدة في مجتمعه، وممارسات أو أشياء مادية يظن أنها تجلب له السعادة. فالذي يسعد الشخص في مرحلة معينة من عمره قد لا يولد لديه نفس الإحساس في مرحلة لاحقة. وما يجلب السعادة لشخص يعيش في مجتمع معين، لا يحقق نفس الإحساس لدي آخرين يعيشون في حياة ظروفها مختلفة.
السعادة إذن قرار وإصرار وسعي دائب ليس فقط لتحقيقها، بل يتعدي ذلك لضمان استمرارها وتواصلها والأخذ بأسبابها بصورة مستدامة. هي نسيج رقيق جدا من الرضا والبهجة والعزيمة والقناعة بأن الإرادة هي مفتاح السعادة. فلو شئنا سوف نحققها ونعيش في ظلالها.