المعلومات والمعرفة
لم يدر بخلدي يوم جلست في صفوف طلاب العلوم السياسية في بداية السبعينات من القرن الماضي أنني سوف أدعي لنفس القاعة كمتحدث زائر لأتحدث عن التنمية والمنظمات الدولية. كلما تذكرت تلك اللحظة التي جلست فيها علي مقعد المحاضر بنفس الصرح التعليمي الذي تلقيت فيه العلم، عادت لذاكرتي تلك الدموع التي ملأت عيناي يومها وإن لم يلحظها أحد.
وبين هذه اللحظة وتلك مرت سنوات طويلة...طويلة جدا..الفرق بين هذه اللحظة وتلك لم يكن السن ولا العمر..لم أحسبها بهذه الطريقة لأسباب متعددة...الفرق في رأيي كان في المعرفة..فحين إلتحقت بالحياة الجامعية لدراسة العلوم السياسية كنت في مقتبل عمري، محدودة المعارف والخبرات والقدرة علي إدراك وإستيعاب الحياة بصورة واقعية واعية.
وبعد أن حصلت علي درجة البكالوريوس واتممت دراستي الجامعية، تذكرت قول واحد من أساتذتي حين قال لنا في أول محاضرة بالسنة النهائية " سوف تتخرجون هذا العام إن شاء الله وتحصلون علي البكالوريوس...هذه الشهادة سوف تفتح لكم آفاق الحياة العملية، ولكنني أريدكم أن تنتبهوا جيدا..هذه الشهادة ما هي إلا شهادة محو أمية ثقافية...ما علمناكم اياه هنا لا يتعدي قواعد فكرية أساسية..ودربناكم علي إستخدام أدوات التفكير المنطقي والعلمي السليم...علمناكم فقط معني المنهج العقلي وكيفية توظيفه في خدمة المعرفة...وحين تخرجون إلي معترك الحياة العامة وبغض النظر عن الطرق التي سوف تسلكونها، فإنها سوف تكون الخطوات الأولي علي الطريق الحقيقي للتعلم".
من الصعب أن أصف الآن مدي إنبهاري بهذه الكلمات العميقة والغير نمطية في مثل تلك الأحوال. ففي هذه الفترة كان منتهي أمل أي إنسان أن يحصل علي شهادة جامعية تسمح له أن يبدأ حياته، ويتلمس طريقه في الحياة العملية بمختلف مجالاتها التي كانت متاحة في ذلك الوقت. ولكنني أستطيع أن أجزم علي سبيل القطع أنها ظلت محفورة في عقلي ووجداني ما حييت...أتذكرها دائما كلما رأيت كيف تغير وجه الحياة الإنسانية، والكم المرعب من المعلومات والمعارف التي أصبحت متاحة لنا جميعا دون أن نتحرك من أماكننا. وأتذكر مدي عناء الباحث والوقت الذي كان الباحثون ينفقونه في إكتشاف المراجع والإطلاع عليها وجمع المادة العلمية اللازمة لإتمام أعمالهم البحثية.
ولا أتوقف فقط عند كم المعارف والمعلومات وإتاحتها للجميع بعد قرابة أربعة عقود مضت من الفترة التي تحدثت عنها في بداية كلامي..ولكن ما تعدي ذلك من إتاحة كاملة لكل أشكال وأنواع المعارف في تحد كبير لعقولنا كبشر. أصبح التحدي الماثل أمامنا الآن هي كيفية إستخدام المعلومات والمعارف، وليس مجرد تحصيلها.
ينقلنا ذلك إلي نقطة هامة جدا وجوهرية، وهي بيت القصيد في هذا المقال، كيف أقيم ما أحصل عليه من معلومات ومعارف. ومدي خطورة أن أستنتج أمور من معلومات ليست دقيقة أو مغلوطة. وبغض النظر عن المصدر، فإن تشكيل العقل والأفكار الإنسانية أصبح سلاحا يحقق لك ما تريد من الغلبة علي خصمك أو عدوك دون حاجة لإستخدام العنف أو تحريك الجيوش.
المحصلة النهائية التي ينبغي أن نتنبه إليها هي أن الحصول علي المعلومات لا يؤدي بالضرورة إلي المعرفة، ولن ينتج عنه بصورة تلقائية إبتكارات أو إضافات ذات قيمة. الخلاصة أنه بدون منهجية فكرية علمية واضحة، وأدوات تفكير حديثة لن نتمكن من تحقيق أية نجاحات ذات بال. وبالتالي لا ينبغي أن نرتكن إلي سهولة الحصول علي المعلومة، لأنها بلا قيمة إن لم تدعمها مرجعية فكرية قوية ونسق عقلي يستطيع أن يقيم ويتحقق ويقيس قبل أن يبني ويضيف.