مي زيادة.. الأديبة التعيسة.. والنجمة الساطعة فى سماء "زمن البرقع"
"أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني"، كانت هذه الجملة المليئة برسالات التعاسة والوحدة والحب، هى آخر ما كتبته مي زيادة بخط يدها قبل وفاتها بشقتها المؤجرة بوسط البلد.
وماري إلياس زيادة هي أديبة لبنانية - فلسطينية ولدت بـ "الناصرة"، عام 1886، لأب لبناني ماروني وأم فلسطينية أرثوذكية، ألتحقت بمدرسة الراهبات الداخلية بالناصرة وخرجت منها وهى بنت الست سنوات، وسافرت إلى لبنان مع والديها، وأكملت تعليمها بمدرسة الدير، مدرسة عينطورة للبنات ببلدة شحتول في لبنان، ومن ثم رحلت إلى مصر مع والديها عام 1908 وهى إبنة 21 عامًا بنية عقدها ألياس زيادة بالبحث عن مقعد شاغر بإحدى الصحف المصرية، فعاشت مي بمصر، حتى توفت فيها يوم 17 أكتوبر 1941 بمستشفى المعادي.
عاشت طفولتها تنظر إلى شبح الغربة والوحدة والقلق وعدم الاستقرار حتى أصبحوا جزءً من شخصيتها، ينتقلون معها أينما حلت فلا أحد يقرأ لأدب مي زيادة أو رسائلها حتى يستشف منها التعاسة والتخبط.
هذا الشعور بعدم الإنتماء كما قالت في إحدى مقالاتها: "أين وطني، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟"، طيلة حياتها لم تشعر بالأمان والإنتماء برغم ما كان يلتف حولها من عظمة وتبجيل وحب، إلا أن أخذها جبران خليل جبران فلم يعش في قلبها غيره حتى وافتها المنية.
"صالون مي الأدبي"
في مساء إحدى ليالي عام 1908، وقفت مي زيادة تلقى على المستمعين كلمتها في قاعة مكتظة من كبار الأدباء ورواد الفكر والأدب، في حفلة أقامتها الدولة برعاية الخديوي عباس لتكريم الأديب خليل مطران، حيث أعُجب الجميع بها، فأحتضنها أدبيا أحمد لطفي السيد الذي اقنعها بالكتابة باللغة العربية، فاتجهت إلى التعمق في اللغة العربية، ودرست الأدب والبلاغة والفلسفة، والتاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، وكتبت ديوان شعر باللغة الفرنسية بإسم مستعار "إيزيس كوبيا".
وكان لمي عامود في صحيفة المحروسة، وكتبت في عدة مجلات وصحف، أخرها صحيفة الأهرام، وقدمت لها شقة في إحدى مبانيها بشارع عدلي وإتخذت منها صالونا ادبيا في عام 1913 وأستمر حتى مطلع العشرينات، فكان ملتقى لجهابذة الأدباء حين ذاك، ولكنة لم يفتح أبوابة للأدب والشعر فقط ولكن للحب أيضًا، طة حسين، العقاد، والشيخ مصطفى عبد الرازق، أحمد شوقي، خليل، ولي الدين يكن، مصطفى صادق الرافعي، وغيرهم.
"سنوات الإشتياق"
ألتف حولها الكثير، وأحبها وأفتتن بها أكثر العقول رصانة وحكمة، ومنهم الأديب مصطفى صادق الرافعي، ولع بها وكتب لها وعناها، وأرسل لها أول رسالة في زجاجة عطر، وتوالت بعدها الرسائل التي لم تصل وأكتفى بنشرها في عدة كتب، هذا الحب جعل الرافعي أديبا عاطفيا أيضا، وقال عنه أنيس منصور "أما المفكر الإسلامي الشاعر مصطفى صادق الرافعي فقد ذهب بعيدا هو الذي ذهب هي لم تذهب به".
ولكنها أحبت شخص واحد فقط لم يلتقيا ولو مرة واحدة لمدة 19 عامًا، لم يبقى له ولنا إلا رسائلها، التي خبئت الحب والشوق والوَحشة والخوف، جبران خليل جبران الذي قرأت كلماتة المبعوثة من أمريكا ليلقيها أحد الأدباء نيابة عنه في حفل الخديوي عباس، لتكون كلماتة أول وأخر ما تنطق به زيادة في الحب والأدب، وبموته أودى بها إلى مصحة الأمراض العقلية.
وطالما فتنت مي زيادة الجميع ببلاغتها وجمالها، فلمعت وسط رجال أدباء فكانت من السيدات القلائل في المجتمع اللاواتي يذعن سيطهن، وقت زمن "البُرقع"، لم ينصفها أحد، واجتذبتها الأضواء والشهوة في عيون الرجال والحب في أحايين أخرى من كل جانب، وبموت والديها ورجلها، تدهورت حالتها النفسية، ومكثت في بيت الأديب أمين ريحاني حتى سافرت بعدها إلى مصر، وضمت شقتها بوسط البلد كراتين من الرسائل والكتب والإهداءات، وملفاتها الطبية، ومقتنايتها، والتي أشيع منذ مدة أنهما عرضوا للبيع في مزاد مغلق.