الحقيقة الغائبة في المناهج الدراسية
لإرضاء الحاكم أو البقاء على كرسى الوزارة أو خضوع لجماعات ضغط ذات توجهات فكرية، يتم تزييف الوعى بإخفاء الحقائق، خاصة تلك التى تتعلق بالأحداث الجارية أو المعاصرة، هكذا تعانى الذاكرة المعلوماتية لأجيال كثيرة من الشعب المصرى، نتيجة تغليب التوجه السياسى عن الحقيقة العلمية والتاريخية عبر آلية وحيدة لجأت ومازالت تلجأ إليها وزارة التربية والتعليم.
ومما لاريب فيه أن تغييب الحقيقة فى ذاكرة الأجيال هدفه والقصد منه معروف وبيّن، وهو أما جعل ماهو غير حقيقى حقيقة وتثبيته كجزء أصيل فى المعرفة، وبالتحديد فيما يتعلق بالسلطة السياسية أو الحزب الحاكم أو خشية أو ممالاة للجماعة التى لها الغلبة السياسية أو الدينية أو الفكرية، وهذا مانراه واضحًا فى موضوعات التربية الدينية واللغة العربية وماتعكسه تلك الموضوعات التى يدرسها التلاميذ مثل موضوعات الشعر العربى الكلاسيكى بدءًا من الشعر الجاهلى مرورًا بكل مدارس الشعر، واختفاء شعر الحداثة تمامًا من مناهج اللغة العربية، وماينبنى على هذا من تغييب لحقيقة واقعة وهو أن هناك مدرسة موجودة اسمها شعر الحداثة لها روادها ونقادها.
ولنسلط الضوء على سياسية تجريف الذاكرة تلك الجريمة التى ترتكبها وزارة التربية والتعليم رغم حدوث حلقتين ثوريتين مر بهما الشعب المصرى مما أحدث حالة فرضت نفسها على الشخصية المصرية، فكونت بداخلها بؤرة متاججة لرفض كل ماهو مزيف والتمرد عليه، ورغم ذلك استمرت ذات السياسات القائمة على قاعدة الحذف والإضافة وفق الرغبات الشخصية والتوجهات السياسية لمن يحكم بصرف النظر عن كون المعروض حقيقيًا أو غير حقيقى، صادقًا أم كاذبًا، حدث أم لم يحدث، كاملًا أم ناقصًا، ومنذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن تعرضت المناهج الدراسية لحالة من الترقيع المستمر شوهت الحقائق، وزيفت وعى أبنائنا؛ ولنلقى نظرة على أمثلة لحالة العبث بالمناهج لنرصد ذلك الجرم الذى يرتكب ضد الذاكرة الوطنية المصرية عبر وزارة التربية والتعليم.
فى منهج مادة الفلسلفة للصف الثالث الثانوى النظام القديم، تم حذف "فلسفة الثورات نموذج تطبيقى ثورة 25 يناير"، وحذف درس "ثورة العصافير" بمادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائى، الذى يشرح قصة الثورة بشكل يتلاءم مع عقلية الأطفال، وتدور حول ملك يحبس العصافير، ويمنع عنها الطعام حتى صرخت بصوت أزعج الملك "ارحل ارحل" وحذف درس "حقوق المرأة وشخصية درية شفيق" بمادة الفلسفة للصف الثانى الثانوى، كما تم حذف الوضعيين سارتر والاستدلال الرياضى فى المنطق لطلاب الصف الثالث الثانوى، وفى منهج الصف الأول الثانوى تم حذف درس "الثورة الحقيقية" وحذف "الأدب والثقافة فى مصر الإسلامية"، ونص "سيد قرارك" من منهج اللغة العربية للصف الثانى الثانوى ومشهد من مسرحية "مصرع كليوباترا" لطلاب الصف الثالث الثانوى.
وحذف عبارات تم اعتبارها إساءة لرجال الأعمال وقوات الأمن من مناهج الدراسات الاجتماعية للصف السادس الابتدائى، وتضمن الجزء المحذوف "بسبب التجاوزات والفساد الإدارى ظهرت طبقة من رجال الأعمال وما تلاها من انتشار الرشوة والمحسوبية ما أدى إلى اندلاع ثورة 25 يناير، والداخلية لم تقم بمهمتها فى حماية المجتمع وقوات الأمن استخدمت العنف ضد المتظاهرين".
مادة علم النفس والاجتماع لطلاب الصف الثالث الثانوى تم حذف درس "قضية المياه وتهديد الأمن القومى ودروس الإدراك وبيئة التعلم الآمنة وهجرة العقول العربية"، وفى الصف الخامس الايتدائى تم حذف درس القائد صلاح الدين الأيوبى محرر القدس، للصف الخامس الابتدائى و6 فصول من قصة عقبة بن نافع للصف الأول الإعدادى.
وفى مادة التربية الدينية للصف الثالث الإعدادى حذف عدد من الفقرات التى تتهم إسرائيل بالإرهاب، وحذف عبارات تحكى عن تاريخ اليهود وإرهابهم مع مسيحيى نجران عندما حفروا لهم الأخدود وألقوا بأكثر من عشرين ألف نصرانى فى النيران ما يدلل علی تطرف اليهود وإرهابهم الفكرى.
وحذف الدكتور محمد البرادعى نائب رئيس الجمهورية السابق من قائمة الحاصلين على جائزة نوبل فى كتاب مدرسى لطلاب الصف الخامس الابتدائى، وأخيرًا حالة اللغط التى أحدثتها اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية والموقف من جزيرة تيران وصنافير ووجودها ضمن الحدود المصرية فى خرائط مصر للصف السادس الابتدائى.
إن سياسية تجريف الذاكرة الوطنية عبر المناهج الدراسية لاشك ترتب عليها كثير من النتائج الخطيرة اْولها وأهمها، تشويه الحقائق الواضحة وإخفاء وقائع حدثت مما يحدث حالة من التشويش فى الذاكرة المعلوماتية لأبناء الوطن.
ثانيًا، وفى ظل ثورة المعلومات والتكنولوجيا وتعدد مصادر المعرفة تتكشف الحقائق التى غيبت وتظهر الحقيقة التى زيفت، ومن ثم تستمر حالة عدم الثقة فيما تقدمه المؤسسة التربوية والتعليمة من مناهج.
ثالثًا، تغييب الحقيقة بالحذف يعنى إحلال حالة تجهيل ولا وعى معرفى مما يؤدى إلى سواد حالة من السفسطة الاجتماعية لاتؤدى إلى أية نتائج.
وأخيرًا.. فإن المؤسسة التربوية التعليمية التى يحكمها منهج الهوى وإرضاء السلطة وتوجهاتها انطلاقا من فكرة التعتيم على الحقيقة العلمية خوفاً من أن يمتلك الشعب منهجًا للتفكير العلمى يدفعه إلى مناقشة قضاياه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بحرية سيؤدى ذلك فى النهاية إلى حالة الفوضى الفكرية التى حتمًا ستكون نهايتها تآكل المجتمع المصرى ذاتيًا باسم الثورة والتغيير.