سحر اللغة وشعوذة وسائل الإعلام المصرية
للغة العربية سحر خاص لا نخاصم الحقيقة إن قلنا إن الاستمتاع به لا يقف عند حدود علمائها ومحبيها فهو يسري في نفوس الجميع حتى أولئك الذين قد لا يدركون كل معانيها.
ورحم الله أيامًا كان العرب يفتخرون بفصاحتهم التي أنتجت حضارة وثقافة استوعبت الجميع وانصهرت في بوتقتها ملل ونحل وطوائف عدة، حتى صارت لغة العلم والعلماء التي يسعى طلاب العلم لدراستها، وليس كما يروج بعض الجهلاء من أنها لم تنتج سوى "عنعنات فارغة" لا تسمن ولا تغني من جوع لمعرفة أو حاجة لعلم.
ويروي العالم المصري الموسوعي جلال الدين السيوطي عن "روح بن زنباع" الذي كان بمثابة الوزير للخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أنه دخل على عبدالملك بن مروان فوجده مهمومًا فسأله عن سبب حزنه فأجابه: أفكر فيمن أوليه أمر المسلمين من بعدي.
فقال بن زنباع: وأين انت من الوليد؟
فرد بن مروان: إنه لا يحسن النحو فقد دللناه صغيرًا ولم نطق فراقه فلم نرسله إلى البادية ليستقيم لسانه.
ألهذا الحد كانت فصاحة اللسان والإلمام باللغة العربية مهمة؟
نعم لهذا الحد، والعرب كانوا يفتخرون بفصاحتهم قائلين:
وإن في المجد هماتي
وفي لغتي فصاحة
ولساني غير لحاني
(أي لا يلحن في اللغة واللحن في اللغة هو الوقوع في الخطأ النحوي)
أما في أيامنا تلك فمفجع هو الأثر الذي تتركه متابعات غالبية البرامج التليفزيونية بما فيها نشرات الأخبار في نفوس محبي اللغة العربية وعشاقها
فمن تضطره الظروف ورغبته في متابعة الأحداث من هؤلاء يكون بين خيارين أحلاهما مر، فهو إما أن يغض الطرف عما يشهده من اغتيال متواصل للغة العربية وروعتها بغية متابعة تلك البرامج، وإما أن ينتصر للغة ويتنازل عن حقه في المتابعة.
وللحق فإن اغتيال اللغة العربية لا يجري فقط فى وسائل الإعلام بما فيها الصحف التي دخل معظمها وللأسف نفق الاستهتار باللغة العربية، ولكنه يحدث كذلك مع سبق الإصرار والترصد من قبل رجال الدولة وكبار المسئولين الذين لا يعير غالبيتهم أي اهتمام للغة العربية حتى في الخطب المكتوبة والمعدة سلفا، وفي التعليم حدث ولا حرج فتعدد المناهج وهرولة أبناء الأثرياء والشريحة العليا من الطبقة المتوسطة نحو التعليم الأجنبي ومدارس اللغات جعل الاهتمام باللغة العربية في الدرجات الدنيا من سلم أولويات التعليم.
حتى الكتابات الإبداعية من قصص وروايات داهمتها اللغة الجديدة التي لا تكتفي بتجاهل اللغة العربية وروعتها وحسب بل تعمد إلى تشويهها والسخرية منها، ومن ثم تحفر مجرى لغويًا ممسوخًا في الأدب الجديد.
والنتيجة: أجيال متعاقبة تنقطع علاقتها بلغتها الأم وتستبدل حروف الكتابة بحروف تمزج بين العربية والإفرنجية، وتتوه اللغة ويتلاشى تأثيرها في تشكيل الوعي وصياغة الوجدان.
في الثامن عشر من ديسمبر عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يدخل اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للعمل بالأمم المتحدة والهيئات التابعة لها وفي أكتوبر عام ألفين واثنى عشر تقرر اعتبار الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا للغة العربية واحتفلت اليونسكو في هذه السنة للمرة الأولى بهذا اليوم.
قبلها بأربع سنوات أي عام ألفين وثمانية أقر مجلس الشعب المصري تعديلا على قانون تنظيم مجمع اللغة العربية منح بموجبه المجمع حق الضبطية القضائية بهدف سلامة اللغة العربية وتوحيد ما فيها من مصطلحات وإحلالها محل التسميات الأجنبية الشائعة في المجتمع وينص القانون على أن مخالفة هذه الالتزامات توجب انعقاد المسئولية التأديبية للمخالف.
وفي عام ألفين وأربعة عشر رصد مجمع اللغة العربية مخالفات كارثية في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية للغة العربية، وتكرر الأمر في العام المنصرم ألفين وخمسة عشر وبالتأكيد ستتكرر الأخطاء الكارثية في هذا العام.
تخيلوا معى لو أن مجمع اللغة العربية قرر تفعيل حقه في الضبطية القضائية ومحاسبة المخالفين لقواعد اللغة على الأقل في وسائل الإعلام، كم ممن يملئون حياتنا صخبا وضجيجا باعتبارهم جهابذة الإعلام ومفكري العصر ومفجري الثورات سيعاقبون ويحرمون من الظهور بجرأة الجهل على شاشات التليفزيون؟.
نقلا عن "سكاى عربية نيوز"