إعادة قراءة "المستقبل"
لدي "هواية" غريبة، وقد تكون الأكثر غرابة وسط عشرات الهوايات التي يتفنن الناس في اتخاذها وسيلة لتمضية الوقت بطريقة مفيدة، وهذه الهواية بدأت في تنفيذها بعد مشاهدتي فيلم "هوليودي" قديم لمدرسة قررت أن يضع طلابها مقتنيات خاصة بهم في صندوق، ويتم وضعه في خزانة مغلقة تحت أرض المدرسة في احتفال كبير، على أن تقوم إدارة المدرسة وطلابها الجدد بعد 50 عامًا على إخراج هذه الخزانة وفتحها، ومطالعة ما أرسله تلاميذ المدرسة لأصدقائهم الجدد بعد نصف قرن، ليكتشف أحد الطلاب أن الورقة التي وقعت من نصيبه تحوى قراءة لما يحدث في المستقبل، والذي يتحقق بشكل مذهل، وبتطابق لا يمكن تصديقه، قررت وقتها منبهرًا بالفكرة "السينمائية" أن أكرر هذه الحبكة، وأن أحتفظ في خزانتي بأوراق وصحف ومقتنيات، وأن أغلق عليها باب خزانتي ولا أفتحها الا بعد مرور سنوات طويلة، حتى أنني لوهلة نسيت قيامي بهذه الفكرة "المجنونة" حتى وقعت عيني بالصدفة على خزانتي القديمة، وأنا أقوم بأعمال تنظيف دورية لأوراقي وحاجياتي في صندرة قديمة بمنزلي، لأكتشف نفسي فجأة أمام باب صدأ لخزانتي القديمة والتي لم يمسسها بشر منذ عشر سنوات تقريبًا.
أصابت جسدي قشعريرة باردة وأن ألمس أثار الزمن على خزانتي القديمة، وأحاول أن أستجمع شتات أفكاري عن الأشياء التي دسستها فيها السنوات الماضية، لأكتشف وبشكل "درامتيكي" أنني تركت في خزانتي على - شاكلة الفيلم – ما يمكن تسميته بقراءة "المستقبل" مما جعل الحبكة "الخيالية" في الفيلم السينمائي تتحول وعلى يد أوراقي القديمة إلى آلة زمن تعيد قراءة "المستقبل"، وبشكل أكثر درامتيكية من الفيلم الخيالي نفسه.
أمن أفلاطون في معرض كتابه الشهير "تيمايوس" بفكرة أن التاريخ يكرر نفسه، وهو ما يعني أنه يعيد أحداثه بتكرار لا يمل منه، وأن كل الأحداث قد تم استنفاذ طرق تنفيذها حتى صار تكرارها أمر بديهي لا خلاف عليه، وأن محاولة استشراف المستقبل تبدأ من إعادة قراءة "التاريخ"، وعليه فإن رحلتك لقراءة الأحداث التاريخية هي في حقيقة الأمر طريقة ناجعة لاستشراف المستقبل، وأن الإنسان هذا الكائن "المجرب" تحوي جيناته على كل تجارب أسلافه الأولين، يحس عند اقترابه من النار بشعور جده الأول الذي اكتشف النار وحرقت يداه التي اقتربت تكتشف كنه الفحيح الذي يتلوى أمامه فيمنحه الدفئ ويصيبه بالألم إذا اقترب منها ومسته شياطينها، فالإنسان ذلك الجنس الذي أوجده الله على الأرض أدرك بعقله أن المعطيات المتشابهة تعطي دائما نتائج متشابهة، فليس من الغريب إذا أن نشاهد الحروب الآن تندلع لنفس ذات الأسباب التي اندلعت بسببها منذ زمن بعيد، ومحركات الإنسان لا تتغير أبدا طوال التاريخ، تأتي على رأسها شهوات البشر التي تحرك داخل الجينوم نفس ردود الأفعال التي قام بها جدنا الأكبر وهو في كهفه بالعصور الحجرية الأولى منذ عشرات الآلاف من السنين.