صراع الرئاسة في لبنان يشتعل.. "جعجع" و"عون".. أعداء الأمس أصدقاء اليوم.. فرقتهما حروب الإلغاء وجمعهما كرسي السلطة
قنبلة سياسية كبيرة فاجأ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع اللبنانيين بها بإعلانه أن مرشحه للرئاسة اللبنانية هو العماد ميشال عون رئيس تكتل التغيير والإصلاح عدوه العسكري وخصمه السياسي السابق.
قنبلة لا تقل غرابة عن مبادرة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بترشيح النائب اللبناني رئيس تيار المردة سليمان فرنجية حليف حزب الله والنظام السوري المقرب وأحد أشد منتقدي تيار المستقبل.
وهكذا أصبح حال السياسية اللبنانية أن أكبر حلفاء حزب الله "عون" مرشحًا أمام أقرب الحلفاء المسيحيين إليه "فرنجية".
الليلة الماضية، تحول مقر إقامة رئيس حزب القوات اللبنانية المعروف باسم معراب والكائن في منحدرات جبال لبنان الشاهقة إلى قاعة للاحتفالات وتبادل الأنخاب بين أعضاء حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر "تيار عون" الأعداء السابقين الذين التقوا في ساحات المعارك، وقاعات البرلمان واستوديوهات برامج التوك شو.
أعداء الأمس
فمنذ ظهور عون وجعجع على الساحة السياسية اللبنانية وهما يتنافسان على زعامة المسيحيين في لبنان، ووصل هذا التنافس بينهما إلى ذروته فيما يعرف بحروب الإلغاء المسيحية أو حرب توحيد البندقية.
فالرجلان يفرق بينهما الكثير، ويجمع بينهما الكثير أيضًا، فعون ابن حارة حريك التي تقع الآن في الضاحية الجنوبية لبيروت "تحولت لغالبية شيعية وأصبحت معقلا لحزب الله" ينتمي للمؤسسة العسكرية اللبنانية واشتهر بأنه كان ضابط مدفيعة ماهرًا، وأصبح قائدًا للجيش الذي تحول خلال الحرب الأهلية إلى جيش ذو تركيبة مسيحية بعد خروج كثير من العناصر المسلمة منه، ثم تم تعيينه من قبل الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل رئيسًا لحكومة عسكرية عامة 1988 "قبل نهاية ولاية الأخير الرئاسية" في مخالفة صريحة للدستور والأعراف اللبنانية بأن يكون رئيس الحكومة من الطائفة السنية.
وخلال هذه الفترة حاول عون استخدام الجيش لفرض سيطرته على المناطق المسيحية فدخل في معارك مع القوات اللبنانية، كما قاوم بمحاولات مماثلة في المناطق المسلمة وانتهى كل ذلك بهزيمة كبيرة على يد السوريين خاصة بعد أن أدى الغزو العراقي للكويت والحرب التي تلته إلى وقف الدعم العراقي لعون، وأتاحت الأجواء الدولية والإقليمية لسوريا للدخول بالقوة لضرب كل مناهضيها في لبنان.
جذور جعجع
أما جعجع فجذوره تعود لقضاء بشري في الشمال اللبناني هذا القضاء الذي اشتهر أهله بالصلابة التي اكتسبوها من جبالهم الشاهقة وأوديتهم السحيقة، ولعبت صلابة أهالي بشري دورًا مهمًا خلال الحرب الأهلية في مساعدة المناطق المسيحية المركزية الأكثر حضارة وثراء.
وبينما اشتهر عون بعسكريته، عرف عن جعجع مهارته الحركية والتنظيمية، فتحول جعجع الذي يطلق عليه أنصاره وأصدقاؤه لقب الحكيم من مقاتل في القوات اللبنانية "الجناح العسكري لتحالف الأحزاب المسيحية خلال الحرب الأهلية الذي قاده حزب الكتائب" إلى عنصر رئيسي ثم إلى قائدها الأوحد.
ويربط الكثيرون بين جعجع وبين مجزرة إهدن الشهيرة التي أدت إلى اغتيال طوني فرنجية والد النائب سليمان فرنجية، ونجل الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية، بينما تؤكد المصادر المحسوبة على حزب القوات أن المجزرة غير مقصودة وأن جعجع أصيب في بداية الأحداث ما أدى إلى خروج الأمر عن السيطرة، وتشدد هذه المصادر على أن حزب القوات هو الوحيد الذي اعتذر عن أخطائه خلال الحرب الأهلية وهو مالم يفعله الآخرون.
ولكن ظلت هذه المجزرة رغم المصالحات حاجزا إضافيا يفصل بين جعجع وفرنجية يضاف إلى العداء التاريخي بين بشري موطن جعجع وقضاء زغرتا المجاور معقل فرنجية، فضلا عن العلاقة الوثيقة التي تصل لدرجة الصداقة الشخصية بين فرنجية والرئيس السوري بشار الأسد، كل ذلك جعل من المستحيل على جعجع أن يتقبل ترشيح حليفه المقرب سعد الحريري رئيس تيار المستقبل لفرنجية، وأن يقرر أن يتخذ خطوة تاريخية بترشيح غريمه عون معتبرًا وفقًا لمصادر القوات أن علاقة لا فرنجية بالرئيس السوري علاقة مصير وأخوة وصداقة، بينما علاقة عون بالأسد علاقة تحالف سياسي فقط.
وبينما فرقت الحرب الأهلية بين عون وجعجع فقد جمعت بينهما الهيمنة السورية على لبنان فقد انتهت الحرب الأهلية بقضاء الجيش السوري على القوات المؤيدة لعون وفرار الأخير إلى السفارة الفرنسية ومنها إلى فرنسا، ثم وضع جعجع في السجن بتهم يؤكد مؤيدوه أنها مفبركة.
والمفارقة أن الخصمين اللدوين عادا للساحة اللبنانية في وقت متزامن تقريبًا، فبعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري عام 2005 شارك أتباعهما معا في الانتفاضة ضد الوجود السوري التي تعرف باسم ثورة الأرز والتي أدت إلى خروج القوات السورية وأعقبها عودة عون من المنفى وخروج جعجع من السجن بعفو من البرلمان.
ولكن عون بعد عودته إلى لبنان تحالف مع حزب الله ووقع ورقة تفاهم مع الحزب عام 2006، وتسبب هذا التحالف في صب مزيد من الزيت على الخلافات بين عون وجعجع، لأن الأخير عرف عنه موقف صارم تجاه النظام السوري وسلاح حزب الله وتأييده للثورة السورية، كما أن التنافس على الشعبية في المساحة المسيحية سببا آخر للخلاف.
أصدقاء اليوم
وهكذا أحرق عون وجعجع الورقة السوداء، وتخليا عن الماضي حتى لو لم ينسياه، ولكن إذا كان هدف عون هو الرئاسة فما هو هدف جعجع.
يقول مراقبون إن جعجع يسعى ليتحول من زعيم حرب سابق، إلى صانع رؤساء، ومن نموذج تقليدي للمناكفة السياسية اللبنانية إلى تقديم نموذج لإنكار الذات الذي فضل المصلحة المسيحية والوطنية على طموحاته الشحضية، وفي هذا الإطار فقد وصف جعجع خطوته لترشيح عون بـ"نكران الذات".
ولكن جعجع كما يقول مراقبون لبنانيون كثيرون ينظر أيضًا للمستقبل، فجعجع ابن الستين يرشح عون ابن الثمانين وهو يعلم أن حزب القوات لديه ميزة نسبية هي تزايد شعبيته في أوساط الشباب المسيحيين، كما أن حزب القوات أكثر مؤسسية من التيار الوطني الحر الذي أسسه عون وارتبط باسمه، إضافة إلى أن توريث عون رئاسة التيار لزوج ابنته وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل يمكن أن يكون عاملا إضافية لصالح تزايد شعبية حزب القوات.
ويلفت الكثير من المراقبين أن جعجع مستفيد أيضًا من ترسيخ قاعدة أن الزعيم المسيحي القوي سياسيًا يجب أن يكون رئيسًا باعتبار أن هذه القاعدة يمكن أن تنطبق عليه بعد ذلك.
جعجع نجح أيضًا في جذب عون إلى منطقته فإعلان الترشيح جاء من مقره الشهير في معراب والذي صاحبه أجواء احتفالية كان حزب القوات هو المضيف والتيار الوطني هو الضيف، كما أن النقاط التي طرحها جعجع من ورقة النوايا التي سبق أن وقعها القوات والتيار باعتبارها مشروع برنامج رئاسي لعون تبدوا أقرب إلى برنامج 14 آذار كما قال جعجع، خاصة فيما يتعلق ببسط سلطات الدولة اللبنانية وإقامة علاقات جيدة مع الدول العربية، والالتزام بالشرعية الدولية، والالتزام باتفاق الطائف، مع إرضاء حزب الله بالتأكيد على أن إسرائيل دولة عدوة.
ولكن هذه الخطوة التاريخية لا تعني أن الطريق إلى قصر الرئاسة اللبنانية بات مفروشًا بالورود أمام عون، فالخطوة وإن نالت بركة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، واستحسان كثير من المسيحيين فإنها لا تنل رضا أغلب الزعماء السياسيين اللبنانيين، فتيار المستقبل يعتبرها موجهة له رغم تأكيد القوات عكس ذلك، ومرشح المستقبل للرئاسة النائب سليمان فرنجية رد على هذه الخطوة بزيارة مقر البطريركية المارونية والإعلان أنه مازال مرشحًا للرئاسة قائلا "من يريدني يعرف طريق منزلي".
والزعيم الدزري وليد جنبلاط لن يكون سعيدًا بالتأكيد أن يتوحد الزعيمان المسيحيان الأقوى واللذان كانا عدوين له خلال الحرب الأهلية، وهو يفضل فرنجية الذي يراه رغم قربه الشديد من نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله، إلا أنه ينتمي للطبقة السياسية التقليدية في لبنان، كما أنه زعيم من مسيحيي الشمال اللبناني البعيد عن مناطق الدروز وبالتالي لا يوجد بينهما الرواسب التاريخية الناجمة عن قرون من النزاعات والتنافس بين دروز وموارنة جبل لبنان.
مأزق رئيس البرلمان
أما رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، فهو أيضًا في مأزق، فهو حليف حزب الله المقرب، وبالتالي نظريًا هو حليف لعون، ولكن لا يخفى على أي مطلع على الشأن السياسي اللبناني أن علاقة بري مع عون ليست جيدة، وأنه تحالف 8 آذار يجمعهما، إلا أن الكيمياء الشخصية تفرقهما، حتى وصفت العلاقة بينهما بأنها علاقة حليف الحليف في إشارة إلى أن تحالفهما مع حزب الله فقط هو الذي يجمعهما.
وسبق أن نسب لبري قوله إنه إن رشح حزب القوات اللبنانية عون فسأترك لأعضاء كتلي حرية الاختيار بينه وبين فرنجية.
أما حزب الله الذي يفترض به أن يكون الأسعد لترشيح عون، لأن المنافسة الآن انحصرت بين أقرب حلفائه المسيحيين "فرنجية"، وأكبر حلفائه "عون"، إن الأمور ليست بهذه البساطة، فمجئ ترشيح عون من قبل حزب القوات اللبنانية وهو ألد خصوم حزب الله على الساحة اللبنانية، أمر ليس مريحًا على الإطلاق، بالنسبة للحزب الذي حاور كل الفرقاء على الساحة اللبنانية إلا "القواتيين" رغم أنه مدوا أيديهم مرارًا للحزب.
وسيسعى حزب الله أن يتأكد أن ترشيح القوات لعون لم يتضمن أي تنازلات عن جوهرية في القضايا الاستراتيجية المهمة وفي مقدمتها طبعا سلاح الحزب، وتدخله في سوريا.
ووفقا للتقديرات فإنه بعد ترشيح جعجع لعون فإن الأخير يضمن أصوات نحو 45 عضوًا في البرلمان وهو أقل بكثير "من النصف + 1" من أعضاء البرلمان "65" وتشمل هذه الأصوات في الأساس تكتل التغيير والإصلاح الذي يتزعمه عون "مع استثناء ثلاثة نواب تابعين لفرنجية" وحزب القوات اللبنانية وحزب الله، ويبدو موقف كتلة حركة أمل غامضًا حتى الآن، ولكن حتى لو صوتت لصالح عون فإن في هذه الحالة تظهر مشكلة ثانية هي مشكلة النصاب "أي ضرورة حضور ثلثي أعضاء البرلمان أي 85 مقعدًا لعقد الجلسة"، فمثلما عطل حزب الله وتيار عون النصاب لأكثر من عام ونصف، فإن الطرف المناهض لعون يمكن أن يفعل الشيء نفسه.
ولكن قد يفاجئنا الساسة اللبنانيون بمزيد من المبادرات التي تأتي برئيس للبلاد بعد غياب دام نحو عام وثمانية أشهر.