سوريا الجريحة ... إلى أين؟ رؤية تحليلية
وكأن القدر يأبى أن ينعم الوطن العربي بالسلام، بل ومضيفاً إليه المزيد من الأوجاع والجراح، فبعد عام من بدء القتال بين حماس وإسرائيل، يوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، والمستمر حتى يومنا هذا، إذا بإسرائيل تفتح جبهة قتال، عربية، جديدة، وتوجه ضرباتها لجنوب لبنان، ضد قوات حزب الله، وتمد قتالها لتدمير البنية الأساسية في لبنان، قبل أن توقع معها معاهدة هشة لإيقاف النار.
وبعد أيام، قليلة، من بداية تنفيذها، إذا بالمعارضة السورية تفاجئنا بالهجوم على مدينة حلب، لتتساقط بعدها المدن السورية واحدة تلو الأخرى، مثل قطع الدومينو، حتى سقطت دمشق فجر يوم الأحد الثامن من ديسمبر، عندما سيطرت عليها فصائل المعارضة، بينما غادر بشار الأسد على طائرة، علمنا لاحقاً، أنها أقلته، وعائلته، إلى روسيا، التي منحته حق اللجوء السياسي إليها. وهكذا، انتهى حكم أسرة الأسد، بعد خمسة عقود من حكم سوريا.
وهنا ظهرت عدة أسئلة عمن سيحكم سوريا في الفترة الانتقالية القادمة؟ ومن هم أعضاء اللجنة التي ستُكلف بضع دستور جديد للدولة السورية؟ وما هو موقف السلطة الجديدة في سوريا من الأكراد؟ وموقفهم من تواجد القوات الأمريكية داخل الأراضي السورية، ومثلهم القوات الروسية الموجودة بها، وأهمها القاعدة الجوية والبحرية؟ وما موقفهم من قوات حزب الله الموجودة، أيضاً، داخل سوريا؟
وسرعان ما جاءنا الرد على حكم سوريا، بظهور محمد الجولاني، أو أحمد الشرع، في شوارع سوريا، متجها إلى الجامع الأموي، حيث ألقى خطبته، وقد ظهر في مظهر جديد، أو "نيو لوك"، هذب فيه لحيته، ونزع غطاء الرأس، رمز المقاومة الإسلامية، وارتدى ملابس القتال على شاكلة الرئيس الأوكراني زلينسكي، في محاولة لتغيير صورته، ونزع قناع الإرهاب، واستبداله بقناع السياسة، في شكله الغربي.
فماذا لو أصبح الجولاني هو الرئيس القادم لسوريا؟ وكيف ستتعامل معه الحكومة الأمريكية ودول الغرب؟ هذا الرجل الذي ترك دراسته في طب الأسنان، وزامل أبو بكر البغدادي، مؤسس تنظيم داعش الإرهابي، الذي خرج من رحمه تنظيم جبهة النصرة، الذي أسسه الجولاني، ونفذ به العديد من العمليات الإرهابية، حتى صنفته الولايات المتحدة "بالإرهابي الخطير"، ورصدت عشرة ملايين دولار لمن يُدلي بمعلومات عنه. ولترسيخ صورته الجديدة، وإقناع الخارج بها، أسس الجولاني هيئة تحرير الشام، بدلاً لجبهة النصرة. أما على الصعيد الداخلي، فبعدما كلف رئيس الوزراء السوري، في عهد بشار الأسد، وأعضاء حكومته، بالاستمرار في إدارة دولاب العمل في سوريا، وهو ما كان من شأنه ضمان الاستقرار، النسبي، في الأوضاع، إذا به يتراجع عن ذلك بتكليف محمد البشير، الذي كان معه من قبل في إدلب، رئيساً للوزراء، في الفترة الانتقالية، لحين إجراء الانتخابات.
إلا أن الجميع تساءل عن الأسلوب الذي سيتبعه محمد الجولاني مع الجيش السوري، وإن ما كان سيتبع نفس النهج الإيراني في إنشاء الحرس الثوري السوري، اعتماداً على الفصائل التي أوصلته إلى دمشق، بما يضمن له الولاء الكامل، حينئذ، على عكس الجيوش التي تدين بالولاء لدولها، أولاً وأخيراً. أما فيما يخص إعداد دستوراً جديداً لسوريا، فالقلق مستمر من تدخل جماعة الإخوان، بصفة عامة، للتأثير على صياغة الدستور، وصبغه بصفة دينية متشددة، لتتحول سوريا في المستقبل إلى إيران، أخرى كالتي بدأها الخوميني، عندما عاد من فرنسا بعد طرد شاه إيران.
وكعادتها، استغلت إسرائيل انهيار الجيش السوري، لتتغول على السيادة السورية، وتقتحم الجولان، وتستولي على جبل الشيخ، أهم المناطق الحيوية العازلة، لتسيطر بالكامل على الجولان، والتي كانت قد ضمتها، من قبل، بقرار من الكنيست، حظي باعتماد الرئيس الأمريكي ترامب، خلال فترة ولايته السابقة. وبما يتيحه الاستيلاء على جبل الشيخ، من الاقتراب من دمشق، فلا شك أن إسرائيل ترى في ذلك أحد أكبر مكاسبها منذ السابع من أكتوبرفي العام الماضي. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بالطبع، بل توغلت لنحو 25 كيلومتر جنوب العاصمة دمشق، وأعلنت خروجها من اتفاق فض الاشتباك مع سوريا عام 74، وفي نفس الوقت شنت قواتها الجوية أعنف غارات في تاريخها، وصلت إلى 350 غارة جوية، منذ سقوط الأسد، قامت فيها بتدمير القوات الجوية السورية في كل المطارات وقضت على وسائل الدفاع الجوي، والرادارات، ليخرج علينا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعدها، مصرحاً بأن بلاده ستغير وجه الشرق الأوسط بشكل جذري.
أما عن شكل العلاقات مع الولايات المتحدة، فتواردت بعض الأنباء عن احتمالات رفع أمريكا لاسم الجولاني من قوائم الإرهاب، لشرعنة التعامل معه، في ظل وجود قواتها في سوريا، خاصة قاعدة التنف العسكرية. ثم تجيء مشكلة الأكراد أو "قوات قسد" التي تدعمها الولايات المتحدة، وإن كان سيُسمح لها بالدخول لسوريا، أم ستعطى الضوء الأخضرر للانفصال، والاتحاد مع أكراد العراق، وتكوين دولة كردستان، وهو ما ترفضه تركيا، وعلى أساسه سيتحدد شكل علاقتها مع سوريا، خاصة وأن المعلومات المتاحة، حتى الآن، تشير لمساعدة الجولاني في هجومه على دمشق، بتزويده بالمدرعات والأسلحة، لتصبح تركيا، في الفترة القادمة، الحليف الجديد لسوريا، ولكن يبقى السؤال عن قبول الجولاني لذلك، بينما تحتل تركيا الشمال السوري بعمق 20 كيلومتر. ويبقى الإجابة عن شكل العلاقات مع روسيا، ومصير القواعد الروسية، في ضوء أوامر الجولاني بعدم الاقتراب من القوات أو القواعد الروسية هناك.
سيظل كل ما سبق ألغاماً حية في طريق محمد الجولاني، وسط ترقب العالم لآليات تعامله معهافي الأيام القادمة.