تحولات تركيا الخارجية
كيف يمكن قراءة زيارة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى تركيا، وذلك بعد ثلاثة أيام من إعلان أنقرة تطبيع كامل للعلاقات مع تل أبيب؟.. وهل لذلك علاقة بتحولات أكبر في السياسة الخارجية التركية؟
"تطييب خاطر"
يرى بعض المحللون أن الأمر وكأنه تطييب خاطر لـ محمود عباس بأن يزور تركيا بدعوةٍ من الرئيس رجب طيب أردوغان، حيث أن توقيت هذه الزيارة يأتي في سياق الإعلان عن التطبيع الكامل الذي أذهل كثيرين بين تركيا وإسرائيل وتبادل السفراء، وبعد أشهرٍ من توقيع اتفاقيات اقتصادية بين أنقرة وتل أبيب.
ويمكن تذكر أنّ تركيا أصبحت في فترةٍ ما من بين أكثر الدول دفاعًا عن القضية الفلسطينية، وكيف كانت ترفع هذه القضية باعتبارها الأهم في المنطقة، وكذلك كيف سالت دماء تركية في بحر غزة عندما حاولت السفينة التركية مرمرة كسر الحصار على قطاع غزة وقتل مواطنين أتراك من نشطاء حقوق الإنسان ومنتسبي فرق الإغاثة الإنسانية في هذه السفينة على أيدي قوات النخبة الإسرائيلية.
أصبحت بالتالي كل هذه السياسة من الماضي، والعقيدة التركية اليوم واضح أنها انضوت تحت عقيدةٍ جديدةٍ هي: مقاربة السلام الإبراهيمي التي ذهب العرب إليها، فإذا كانت الإمارات والمغرب، والأخيرة تستضيف لجنة القدس ويترأس ملكها هذه اللجنة، قد أشهرا التطبيع مع إسرائيل، والأمر ذاته ربما تقدم عليه السودان ودولٌ خليجيةٌ أخرى وإلى حد قيام المملكة العربية السعودية فتح أجوائها أمام حركة الطيران المدني الإسرائيلي، فإن تركيا الرسمية وجدت نفسها تقول إنها لن تكون أكثر عروبةً من العرب، ومن ثم تأخرت القضية الفلسطينية ولم تصبح أولويةً الآن.
وعلى هذا النحو قد صارت الأولويات هي الواقعية السياسية، والمصالح الوطنية، وهنا أنقرة تلعب في هذا السياق الذي يتجه إلى مقاربة جديدة للسلام في الشرق الأوسط، وهي أيضًا مقاربة لا تعتمد على مبدأ بيروت: الأرض مقابل السلام، وإنما مبدأ آخر هو: التنمية مقابل السلام.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك تصريح مهم لوزير الخارجية التركي، مولود شاويش أوغلو، عند الإعلان عن توقيع اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، قال فيه: "إنه يمكننا الآن أن ندافع بصورة أكثر فاعلية عن الحق الفلسطيني". وهذا الكلام قد سمع أيضًا من مسئولين إماراتيين ومغربيين.
إذًا لم تعد القضية الفلسطينية أولوية لا للعرب ولا للأتراك.
الحرب الروسية - الأوكرانية وتحولات السياسة التركية
ليس فقط في الملف الفلسطيني، فـ المراقبون يلاحظون تحولًا كبيرًا في الدبلوماسية التركية مؤخرًا على أكثر من صعيد.
ويمكن القول بأن هذا التحول قد بدأ منذ الحرب الروسية - الأوكرانية التي تدخل هذا الشهر شهرها السادس وما صاحب معاركها من أزمات اقتصادية وتهديدات عسكرية.
تركيا وبعدما أغلق في وجهها أبواب الاتحاد الأوروبي، توجهت إلى رفع راية إحياء المشروع العثماني غربًا وشرقًا، وعلى مدار السنوات الماضية شوهد الرئيس التركي ووزراءه وهم يذهبون غربًا وشرقًا ويهاجمون السياسات الفرنسية والألمانية وسياسات الدول العربية كذلك وإلى درجة قيام أردوغان في إحدى المرات بسب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. هذه السياسة قد تحولت وصارت تتجه أكثر نحو سياسة صفر مشاكل مع الجيران.
وعن الجيران، فهناك مثلًا سوريا، والتصريحات الأخيرة لـ أردوغان عن سوريا تقول إن أنقرة ليست لها مطامع في سوريا، بالإضافة إلى تصريحات أخرى نطق بها مسئولون أتراك عن ضرورة إجراء وإتمام مصالحة سورية - سورية، ومن هنا لا بأس من إمكانية رؤية غلاف صحيفة الأخبار اللبنانية الذي حاول تلخيص السياسة التركية الجديدة في عنوان: تركيا ترقص بين سوريا وإسرائيل.
الأمر ذاته وعلى نفس الوزن ربما يكون صحيحًا: تركيا ترقص بين الغرب والشرق، أو: تركيا ترقص بين موسكو وكييف، أو: تركيا ترقص بين الناتو وموسكو.
بات بالتالي واضحًا أن العقيدة التركية اليوم هي التحول إلى دبلوماسية البحث عن المصالح التركية أولًا وإنعاش اقتصاد البلاد الذي أنهكته كثيرًا السنوات الأخيرة من دبلوماسية إدارة أردوغان الصدامية مع الجميع.