اتفاق السلام في جنوب السودان.. هدنة مؤقتة أم انفراجة حقيقية
يأتي اتفاق السلام في جنوب السودان، والذي وقع عليه الرئيس سيلفاكير في جوبا يوم الأربعاء الماضي، ليعطي بارقة أمل للشعب الجنوبي بقرب انتهاء معاناتهم وأوضاعهم المتردية ووضع حد لأعمال العنف التي تشهدها البلاد منذ قرابة عشرين شهرًا.
وجاء توقيع الرئيس كير على الاتفاق بعد ساعات من تهديد مجلس الأمن الدولي بالتحرك وتهديد الإيغاد بفرض عقوبات على حكومته، في حال لم يوقع على اتفاق السلام الذي وقعه كل من زعيم المتمردين رياك مشار والأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم في السابع عشر من أغسطس الجاري في أديس أبابا.
وقد كان كير رافضًا للاتفاق في البداية بحجة أنه ينتقص من سيادة بلاده ويعد من وجهة نظره "استسلامًا"، غير أنه اضطر في النهاية لقبوله تحت الضغوط الإقليمية والدولية مع إعلانه بعض التحفظات عليه التي لابد من أخذها في الاعتبار، داعيًا دول الإيغاد إلى ضرورة العمل مع بلاده لتنفيذ بنود الاتفاق.
ومن أهم البنود التي نص عليها اتفاق السلام إعلان "وقف دائم لإطلاق النار" بعد 72 ساعة من توقيعه، خروج القوات الأجنبية، منح المتمردين منصب نائب الرئيس - بعد أن تم إقصائهم منه في يوليو 2013- تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية بعد 90 يومًا من توقيع الاتفاق وتستمر لمدة 30 شهرًا، بالإضافة إلى تشكيل لجنة للمصالحة ومحكمة خاصة بجرائم الحرب بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي.
وتمثل التحفظ الرئيسي للرئيس كير على وثيقة السلام في استحداث منصب النائب الأول للرئيس إلى جانب منصب نائب الرئيس الحالي ومنحه للمتمردين، حيث اعتبر الرئيس الجنوبي أن ذلك يعد بمثابة "مكافأة لحركة التمرد".
وينص هذا البند من الاتفاق على أن يتشاور الرئيس كير مع نائبه الأول، الذي يرجح أن يكون زعيم المتمردين نائبه السابق رياك مشار، من أجل اتخاذ قرارات "جماعية".
ويوصي الاتفاق الحكومة بتعيين نائبي رئيس تكون "صلاحياتهما متساوية"، على أن يحدد رئيس الدولة "مهامهما وواجباتهما". كما تطالب جوبا بأن يحتفظ الرئيس بمهام تشكيل الحكومة، ويرفض توزيع الحقائب الوزارية الذي ينص عليه الاتفاق.
ويعترض كير أيضا على الحصة التي حددت للمتمردين في السلطات التنفيذية المحلية في الولايات الثلاث الرئيسية جونقلي وأعالي النيل والوحدة وقدرها 46% من المقاعد، مطالبا بـ70% من المقاعد لمعسكره.
وتختلف أراء المراقبين حول مدى قدرة هذا الاتفاق الجديد على تحقيق السلام النهائي في جنوب السودان ووضع حد لأعمال العنف التي شهدتها البلاد على مدار العشرين شهرا الماضية. فبينما يبدي الفريق الأول تفاؤله إزاء هذا الاتفاق، معتبرا أنه يمثل انفراجة للصراع الدائر منذ قرابة عامين وأنه سيتم الالتزام به خشية من فرض عقوبات دولية على الحكومة في ظل الأوضاع المتردية التي تعاني منها البلاد، يرى الفريق الآخر أن هذا الاتفاق لن يستمر طويلا وأنه لا يتعدى كونه "هدنة مؤقتة" للقتال متوقعا أن يلقى نفس المصير الذي لاقته الاتفاقات السابقة بين حكومة الجنوب والمتمردين خاصة في ضوء التحفظات التي أعلنها الرئيس كير وتصريحاته بأن هذا الاتفاق "قد لا يصمد".
والواقع أن الأوضاع في جنوب السودان تزداد سوءا يوما تلو الآخر، فقد أدى الصراع حتى الآن إلى مقتل آلاف الضحايا وتشريد نحو مليوني شخص تركوا بلا مأوى. وكشفت منظمات الإغاثة أن ملايين المواطنين يواجهون أزمة غير مسبوقة من نقص الغذاء والدواء والمياه وهؤلاء هم من يدفعون الثمن الأكبر للقتال.
من ناحية أخرى، شهد اقتصاد البلاد تدهورا ملحوظا بعد تراجع إنتاج النفط في الوقت الحالي إلى أقل من 150 ألف برميل يوميا، مقابل 400 ألف برميل يوميا في 2013 وذلك في ظل سيطرة المتمردين على أجزاء واسعة من حقول النفط في ولاية الوحدة وأعالي النيل، والتي أصبحت مهددة لبقية الحقول في البلاد.
كما شهدت أسعار السلع الاستهلاكية ارتفاعا جنونيا وصل في بعضها إلى 300% بسبب توالي ارتفاعات سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية الجنيه في السوق الموازية، وانعدامه في بعض الأحيان.
ويظهر المشهد السابق مدى احتياج دولة الجنوب إلى تهدئة الأوضاع وإنهاء القتال تمهيدا لتحقيق السلام وتحسين الظروف المعيشية لهؤلاء المواطنين الذين يعايشون أوضاعا صعبة منذ حصولهم على الاستقلال عام 2011. ومع العلم بأن تحقيق السلام في الجنوب لن يتم بين ليلة وضحاها ولن يكون أمرا سهلا في ظل التعقيدات الكثيرة التي تواجهها تلك الدولة الوليدة غير أنه يمكن اعتبار اتفاق السلام تطورا إيجابيا في طريق حل الأزمة التي أسقطت آلاف الضحايا وشردت ملايين الأشخاص وفاقمت الأوضاع المتردية في البلاد أمنيا واقتصاديا.
ويبقى العنصر الحاسم الذي يضمن احترام الاتفاق وتنفيذه هو وجود آلية تضمن إلزام الطرفين بوقف القتال وتطبيق بنود الاتفاق وهو الأمر الذي يراه الكثيرون صعب المنال.