عاجل
السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الادارة
رجب رزق
رئيس التحرير
سامي خليفة
الرئيسية القائمة البحث

اللي مالوش خير في حاتم



مظاهرات وهـتاف أمناء الشرطة: "الـداخلية بلطجية" هـو التعبير الدقيق للكوميديا السوداء، والتجسيد الكامل لمنتهى العـبثية، وقمة الفوضوية التي إن تـركت ستصير النار التي ستلتهم جسد الوطن المثخن بالجراح.

فقصة أمناء الشرطة، بدأت منذ ما يقرب من نصف قرن، حيث تم أنشاء معهد ودرجة أمناء الشرطة عام 1967 م على يد شعراوي جمعة وزير الداخلية في عهد الزعيم ناصر.. وكان الغرض منه تخريج رجال شرطة على قدر من التعليم والمسئولية، حيث كان من شروط الالتحاق بمعهد أمناء الشرطة أن يكون الطالب حاصلا على الثانوية العامة، أو ما يعادلها، كما تم إنشاء المعهد لإلغاء نظام الكونستبلات القديم، وأيضا كان من أهم الأهداف هو دعم هيئة الشرطة، حيث يلتحق الطالب بمعهد أمناء الشرطة لمدة عامين، يدرس خلالهما المواد الشرطية والحقوقية، ويتم بعدهما تخريجه أمين شرطة ثالث، ويتدرج من ثالث إلى أمين ثانٍ، ثم أمين أول، وبذلك يكون مر على خدمتة خمسة عشر عاما، وبعد ذلك يتم ترقية في رتبة ملازم شرطة، حيث المفترض أن يكون حينها ضابط شرطة على كفاءة عالية جدا، مقارنة بضباط الشرطة خريجي كلية الشرطة حديثي التخرج.

ولكن النظر إلى واقع حال وظيفة أمين الشرطة، نجدها لم تحقق الغاية المنشودة، بل خلقت معضلة عويصة نكتوي بنارها الآن، فوظيفة أمين الشرطة في حقيقتها وظيفة مدنية وليست عسكرية، حيث تخرج في معهد فوق المتوسط، عامان بعد الثانوية العامة، ليس ضابطا ولا جنديا، عامان فقط يفصلانه عن رتبة الضابط، وهو ما سبب لدى الكثير منهم أزمة نفسية عميقة، فغالبا ما يلتحق بالمعهد أبناء الطبقات المتوسطة، والدنيا من المجتمع. 

والحقيقة أن وظيفة أمين الشرطة، صارت هامة بعد ازدياد التعداد السكاني، وتنامي التوسع العشوائي، مما اضطر ضابط الشرطة للعمل في أماكن تختلف تركيبتها الاجتماعية جذريا مع الأماكن التي نشئوا فيها، وهنا ظهرت الحاجة الماسة لأمين الشرطة، مدني غير عسكري تلقى قدر من التعليم ومن خليفة اجتماعية بسيطة، مما يؤهله للتعامل بسهولة مع قطاعات شديدة العشوائية والهامشية، وبرواتب أقل من الضباط بطبيعة الحال.

ومع الوقت لعب أمين الشرطة أهم أدواره، وهو دور الوسيط بين الضباط أبناء الطبقة العليا، وبين المواطنيين المهمشين من قاطني العشوائيات وغيرها، ووجد الفقراء في "الباشا الأمين" همزة الوصل القادرة على توصيل شكواهم ومطالبهم للضباط.
  
وربما يكون هنا مكمن العلة وأصل الداء، فقد ولد ذلك الأمر إحساس مفرط وطاغٍ بالقوة يستمدها في كثيراً من الأحوال "الباشا الأمين" من احتياج الضابط له، هذا الاحتياج الذي يتواكب مع مرارة عدم التقدير والإحساس بالظلم، فهو لا يرى نفسه أقل كفاءة من الضابط، بل ربما يرى نفسه أكثر قدرة ومعرفة منه، مع إطلاق يد غير محدود في مناطق نفوذهم؛ مما جعل من أمين الشرطة "الحاكم بأمره" فيلجأ له الخارجون عن القانون، وتجار المخدرات لتسيير أعمالهم، ويلجأ هو للفساد لتعويض الفارق المادي بينه وبين السادة الضباط، بفرض الإتاوات والتهديد بتلفيق القضايا للبسطاء من الفقراء الواقعين في نطاق نفوذه لضمان السلطة والهيبة، ولا مانع من تلفيق القضايا بالفعل للأبرياء؛ ولذلك لاستيفاء العدد المطلوب إعلانه في الإحصاءات الرسمية، وهو ما جسدته السينما المصرية في أعمال عديدة، كان أبرزها فيلم "هي فـوضى" التي قام ببطولته الراحل الفنان خالد صالح في دور أمين الشرطة "حاتم" الذي ربط حب مصر، والولاء لها بطاعته والانصياع لشهواته وظلمه.
  
وهكذا تعاظم إحساس القوة الموهومة لدى هذه الطائفة، وجاءت غضبتهم المؤثمة لتضع الدولة في رهان حقيقي، واختبار دقيق بين التعامي عن تنامي طيش هذه الفئة أو إعمال القانون، وتأكيد سيادة الدولة في الضرب بيد من حديد على العابثين من هؤلاء الأمناء.. وأحسب وربما أرجو أن تثبت الدولة أنها قادرة على ردع هؤلاء، وإلا فإن خسارة الرهان في هذا المقام يعني أن الدولة تتداعى أركانها تحت طغيان حـاتم ورفاقه.. سلم الله الكنانة، وشعبها، وشرطتها من حاتم وأمثاله.