يَـتـِيـمًا فَـآَوَى
شيبة الحمد المعروف بـ عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي سيد قريش المحبوب لحلمه وفضله , وجميل خلقه .. كان عطوفًا كريماً يطعم الفقراء في السهل .. ويطعم الوحوش في الجبل .. شهماً يساعد المظلوم , ويأخذ حقه من الظالم.. لا يسأله سائل حاجة إلا قضاها له.
بهذه الصفات العظيمة والخصال الكريمة صار سيد قريش وزعيم مكة، محترما من الفقراء، موقرا من الأغنياء على السواء.
إذا أقبل موسم الحج من كل عام، ووفد الحجيج من كل حدب وصوب، تكفل عبدالمطلب بسقايتهم، وتوفير الماء لهم، والماء أعز شيء في الصحراء.
لذلك كان يمضي الرجل الحكيم وقته مهمومًا بالتفكير في كيفية الحصول على الماء في صحراء قاحلة، وكم تعب في حفر الآبار الواحد تلو الآخر، فإذا ما وصل إلى أعماق الأرض لم يجد بها ماء، فعاد فطمرها بالتراب، وحفر غيرها.
كان يتمنى في قرار نفسه أن يوفقه رب الكعبة فيعرف موضع بئر "زمزم" التي نبعث لجده إسماعيل، وظلت زمانا طويلا تجود بالماء الغزير، ثم دفنها الأعداء بالصخور والرمال مكيدة لقريش، وأخفوا موضعها عن العيون، ومع مرور الأزمان نسيت قريش مكانها، ولم تجد بئرا تعوضهم عنها.
كثيرا ما أخذ عبدالمطلب يفكر فيها ويقول: ليتني أهتدى إلى هذه البئر، فأحيى بها ذكري جدي إسماعيل وإبراهيم، الذين جعلاها سقاية للحجاج الذين يقصدون البيت العتيق.
ذات يوم نام عبدالمطلب في ظل الكعبة كما كان يحب وهو يفكر في ذلك، وإذا بهاتف يهتف في أذنه :
قم فاحفر زمزم ..
قم فاحفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الأكرم، لا يفرغ ماؤها ولا يذم، تسقى الحجيج الأعظم.
هب سيد مكة من نومه، وأخذ يتلفت حواليه عمن يناديه، فلم يجد أحدا ! فجعل يقول لنفسه: أأحفر زمزم؟ من يطالبني بهذا؟
أملك كريم، أم شيطان رجيم؟
أم أنها أضغاث أحلام !.
فكر سيد قريش برهةـ، ثم هب واقفا وانصرف لشئونه.
في اليوم التالي هتف الهاتف في منامه بما هتف به أول مرة، وزاد عليه أحفر طيبة!.
نهض عبدالمطلب من نومه فلم ير أحدا، فازدادت دهشته، وانتظر أن يدله الهاتف على مكان زمزم ليحفر فيه.
وفي اليوم الثالث تراءي له شبح شيخ جليل ينادي عليه بصوت أكثر وضوحا احفر زمزم!
فيرد شيبة الحمد: وما زمزم؟
أجابه الشيخ: ماء لا تُنْزَح ولا تُذمُّ، أحفرها وأسق بها الحجيج الأعظمّ!
قال شيبة الحمد: أين... أين؟ أخبرني عن مكانها!
أجابه الشيخ : في الحرمِ، بين الفَرثِ والدم.
نادى شيبة الحمد: هل من مزيد... أخبرني عنها أكثر!
رد عليه الشيخ: عند قريةِ النمل، عند نقرة الغرابِ الأعصمِ.
ثم اختفى سريعًا ذاك الشبح المدّثر بحرير الضباب الناصع، بعد أن حلّ ورحل خفيفًا كالسحاب، رقراقًا كالماء، مرفرفًا كالنسيم، بعد أن كان واقفًا وقفته تلك في وجوم، يتحدث في صلابة وأنس. ما إن همّ سيد مكة بمزيد من السؤال، حتى تسلّل الشيخ وانسل في السماء وأجوائها العطرة.
أفاق الرجل من النوم ، والعرق يتصبّب منه، كأن يشعر برهق ممتع ...
حمد رب الكعبة على انزياح الهمّ وانفراج الغمّ بعد تلك الأيام العصيبة.
أجل، لقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء عن غموض ما رأى من الأحلام فيما مرّ من الأيام، وعلم حق اليقين أنّ رؤياه تلك كانت إلهيةً صادقة، لا أضغاث أحلام.
لقد كان الله وحده هو العالم بما كنت يحسسه من الحبور والأفراح؛ فقد منَّ عليّه دون سائر البشر إذا اصطفاه لإسداء تلك الخدمة.
نظر عبدالمطلب إلى السماء فوجد القمر يتلألأ في ليلته الرابعةَ عشرةَ، يسطع بأضوائه اللامعة على جبينه الوضاء، فيضفي على طلعته البهية هيبة سماوية.
راح نسيم الصَبا العليل يتسلّل إلى شعر عبدالمطلب الكثّ وينحدر إلى أمواج تجاعيده، فَتترأى فيه صورة النبي إبراهيم المعلّقة في باطن الكعبة.
في صمت رهيب، مدّ عبدالمطلب بصره إلى البعيد، حيث قمم الجبال التي تحيط بمكة كالسوار بغيطانها وسواد صعيدها تكاد تسطع تحت أنوار القمر لتبهر العيون، وتثير الخيال..
لم تكتحل عيناي عبدالمطلب بالنوم حتى الفجر؛ إذ امتزجت روحه بالبهجة والقلق والترقب. كان يترقّب بفارغ الصبر تباشير الصباح.
شغل باله طويلاً حفر زمزم، ضالته المضنونة، المنشودة، غاليته المفقودة. بل بلبلت بال أبيه هاشم ، وجميع أسلافه على مدى الأيام، وسالف العصر والزمان.
منذ أن وافت المنية عمه المطلب، أُنيطت إليّه سقاية الحاج؛ فعقد عليّه الحيّ الآمال. لم يدّخر سعيًا في إسداء الخدمة إليهم وإلى الحجيج. لكن السقاية ما كانت تتم كما يرغب ويشاء؛ فالماء شحيح قليل، لا يفي بالمطلوب ، ولا سيما في أعوام الجدب، إذ كانت السماء تحبس قطرها لبضع سنين. ومن هنا حضرته فكرة أن يحفر طوايا يستعين بها على السقيا؛ فزاهر وعسقلاني والجِعْرَانَةُ وما كانت تحيط مكة من آبار لم تعد تجدى نفعًا لسقاية الحاج لبُعد الشقَة، وطول المسافة، وقلة العدة والعدد.
نادي عبدالمطلب ولده الحارث وقال له: عندما كنت يافعًا، أيقظني والدي مرةً مع الفجر. ولم أدر لِمَ بدا الأمر لي عجيبًا. مع أننا اعتدنا على الإبكار. كأنّ غرّة الفجر ستتمخض عن أمرٍ ما.
يقول الحارث: صمّم والدي وعقد العزم على حفر بئر في الحرم. ومحاولة حفر البئر ليس أمرًا جديدًا، لكنّ الذي آثار فيّ العجب العجاب، أنّ والدي بنفسه سيباشر الحفر، سألته عن السبب والدليل. سرد لي حكاية قديمة، تعود إلى مئات السنين في عصر جدنا إسماعيل عليه السلام.
بعد أن حطت هاجر مع رضيعها إسماعيل مكة التى كانت فلاة جرداء .. ملساء، غير ذات زرع ولا عشب. ولمّا اشتدت على إسماعيل وطأة العطش وحارت هاجر في أمرها، انفجر ينبوع تحت كعب إسماعيل، وهو يدق بها الأرض وينبشها.
انبجس الماء في ذلك الموضع، فعكفت عليه الطير والوحوش رويدًا رويدًا، واهتدت إليه جرهم وبعض القبائل البدوية؛ لتلقي فيه العصا، وتتربّع ... ثم من جرهم هذه تزوج إسماعيل.
إثر إسماعيل، جاء دور ابنه الأكبر نـابـت، ليقوم بأمر السدانة وخدمة الحجيج. وإذ وافته المنيّة، تولّت قبيلة جرهم الأمر، واحدًا إثر الآخر إلا أنهم مع مرور الوقت طغوا لما استغنوا، وعاثوا في الأرض فسادًا؛ أكلوا أموال الكعبة، وظلموا من دخلها من غير أهلها ونهبوهم. استمرت الحال على هذا المنوال قرنين من الزمان أو يزيد قليلاً ، حتى طغى سيلُ العرم في اليمن، فتشردت خزاعة منها، ثم نزحت إلى مكة؛ حيث تقوت على أهلها، واقتتلت مع جرهم. استعانت خزاعة بكنانة، فآذنوا بحرب، ثم هاجموا مكة، فكانت لخزاعة وحليفتها كنانة الغلبة.
منذ ذلك الحين، ولأمد بعيد، صار النزاع سجالاً على أمر السدانة وخدمة الحجيج بين خزاعة وجرهم، ثم استحال ذلك إلى قتال وعداء. غلبت خزاعة على جرهم بما عبأت من الرجال، ثم أخرجتها من مكة ظلمًا وعدوانًا.
كان أبي يقول: غلب خزاعة الغرور، فظلمت الحجيج بما فرضت عليهم من جائر الأحكام؛ فعلى الرجال نزع الثياب، والطواف بما تعيّنه خزاعة من الدثار، وعلى النساء الطواف عاريات.
ومن بدع الأحكام وجورها، ألا تتم الرفادة إلا على يد خزاعة. وبهذا الظلم احتوت القبيلة الكنوز، وجمّعت الأموال، ويومًا بعد يوم، قويت واستغنت بعد أن دخل عليها الخصب والثراء.
كان ذلك دأب خزاعة وديدنها لسنين وأعوام، حتى ثار عليهم جدنا الرابع قصي بن كلاب يقتص منها لما عاثته من الظلم والفساد، فهزمها، ثم عن مكة أجلاها.
كان أبي ينقل عن أبيه أنه: لمّا استظهر جدّنا على خزاعة، واستردّ مكة، لم يظفر بزمزم. استقصى الأمر، فعلم أن خزاعة هذه حين تيقُنت الهزيمة، طمّت البئر بما تبقى من أموال الكعبة، فانطمست معالمها.
ثم نهض سيد قريش وولّي وابنه وجههما شطر الحرم؛ أخذ عبدالمطلب بيده مِجْرَفَة ثم استبق ابنه ببضع خطوات، وقف المارة مدهوشين، كانوا يُكبرونَ أمر سيد قريش، وينكرونه عليه مستفهمين:
ماذا حلّ بشريف قريش ودهاه؛ ليحمل مِجْرَفَة بنفسه، أين غلمانه، ما منعه أن يستغنى بهم، ويوكل إليهم هذه العمل الشاق!؟
وللحديث بقية بمشيئة الله.