حسن الترابي ساحر السودان.. جـزء 4
بمجرد أن تدثر الترابي بكرسي رئيس البرلمان بدأ يحضر نفسه لمعركة تكسير عظام جديدة مع البشير عبر زيارات إلى ولايات السودان، خصصها لاستقطاب أنصار له في المعركة المقبلة التي قدر أن تكون ساحتها المؤتمر العام للحزب في أكتوبر 1999، وفعلاً في هذا المؤتمر وجه ضربة قوية للرئيس البشير واستعاد مركزه بصفة أساسية على الموقعين على مذكرة العشرة، حيث جرى إبعادهم عن المكتب القيادي وهيئة الشورى وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم أحمد عمر ما اضطر البشير لترضيته لاحقًا وتعيينه في منصب مساعد رئيس الجمهورية.
ولم يتوقف الترابي الموصوف بالعناد عند ذلك الحد، لكنه كثف من خلال البرلمان حملات استدعاء لوزراء حكومة البشير وفتح من خلالها ملفات ساخنة، ثم نظم مؤتمر للحكم الاتحادي أصدر توصية بانتخاب الولاة بدلاً من الانتخاب عبر كليات بواسطة رئيس الجمهورية البشير، وألحق الترابي التوصية بمقترح للبرلمان بتعديلات دستورية تحمل إلى جانب المقترحات الدستورية مقترحاً آخر بضرورة فصل منصب رئيس الوزراء عن رئيس الجمهورية، وكان رئيس الوزراء المعني بالفصل هو الرئيس البشير نفسه، فاشتعلت المعركة بين الرجلين القويين وانتقلت لخانة المعركة العلنية.
وعليه تدخل البشير بقوة وضرب ضربته القاضية، وأبطل مفعول مقترح التعديلات قبل أن يمر في البرلمان وذلك بعد أن أصدر قرارات في 12 ديسمبر 1999 عرفت باسم قرارات الرابع من رمضان حل بموجبها البرلمان وبالتالي أقصى الترابي من منصبه، وجمد مواد الدستور التي تتعلق باختيار الولاة عبر كليات انتخابية مما يعني تعيينهم من قبل الرئيس البشير، وقد حاول الترابي الطعن في قرارات الرابع من رمضان ولكن المحكمة الدستورية أيدتها.
وانفتحت المعركة بين الطرفين على كل الأبواب واللعب على المكشوف بين الرجلين، والنبش في الملفات "المستورة".
وفي الخامس من مايو 2000 دعا الرئيس البشير إلى اجتماع كبير لأنصار حزب المؤتمر الوطني قصد أن يقام داخل دار الحزب وعبر الاجتماع الذي عرف باسم ذا دلالة إسلامية: "نفرة رمضان" وجه البشير هجومًا عنيفًا على الترابي واتهمه لأول مرة صراحة بالعمل على إسقاط نظام الإنقاذ، وكشف أن الزعيم الإسلامي يجرى في هذا الخصوص اتصالات بضباط في الجيش والأمن والشرطة وتحريضهم ضد الحكومة.
واستمر عمر البشير في الطرق بمعوله على رأس الترابي، وأصدر البشير فى اليوم التالي قراراً بحل الأمانة العامة لحزب المؤتمر التي يرأسها الترابي وقبل أن تطوق مجموعة من الأمن دار الحزب وتفرض عليه حظر الدخول.
ليفقد الأخير آخر مناصبه ومعاقله الرسمية، لم يشفع له استئناف تقدم به لدى مسجل تنظيمات الأحزاب ضد القرار، استمر البشير في تصعيده ضد الترابي فدعا إلى اجتماع لمجلس شورى الحزب الحاكم في 26 يوليو 2000 انتهى باعتماد قرارات إقصاء الترابي من الأمانة وعاد وانتخب الدكتور إبراهيم عمر رئيسًا لمجلس الشورى بصفة مؤقتة. واستجاب الترابي لخطوة البشير التصعيدية بأن أعلن المفاصلة النهائية مع خصمه بتشكيل حزب موازي باسم "حزب المؤتمر الوطني الشعبي" فتمايزت الصفوف وارتبكت ساحة أنصار التيار الإسلامي بشدة حيال الاختيار بين الانضمام إلى البشير الحاكم أو إلى الترابي الزعيم المعارض، وسادت لأشهر وسط الإسلاميين سياسة "سيفي مع معاوية وقلبي مع علي"، وفي خضم التمايز خطى الترابي في 19 فبراير 2001 خطوة سافرة في غـرابتها وحـدتها، إذ أعلن أن حزبه وقّع مذكرة تفاهم مع قرنق، بالطبع اعتبرها البشير بمثابة خيانة وعمل عدائي ضده بالتضامن مع "عدو البلاد الأول" قرنق الذي يدير حربًا طويلة ضد الخرطوم من جنوب السودان، وعليه بعد مضي 24 ساعة من إعلان مذكرة التفاهم عبر مؤتمر صحافي طوقت قوة منزل الترابي في ضاحية المنشية قبل أن تقتاده إلى سجن كوبر الشهير، مكث الترابي هناك زهاء العام ونقل من بعد إلى منزل حكومي في ضاحية كافوري المجاورة لكوبر وسمح لزوجته وأحدى كريماته بالإقامة معه وترتيب زيارات لبقية أعضاء الأسرة، وبعد توقيع اتفاق الترتيبات الأمنية بين الحكومة وحركة قرنق في سبتمبر أطلق سراح الترابي، وخرج الترابي الممتلئ حقداً علي البشير ليدير صراعه من جديد مع البشير.
منذ أن ظهر التمرد في دار فور أشارت الحكومة إلى حزب الترابي هو المؤجج لنيران القتال هناك عبر حركة العدل والمساواة المتمردة في دار فور وهي الحركة التي يقودها الدكتور خليل إبراهيم المعروف بانتمائه السابق إلى حزب الترابي، ولكن الترابي ظل ينفي الاتهام الحكومي الموجه إلى حزبه، وأعلن أن تمرد دارفور "هو تمرد ضد سياسة المركزية التي تتبعها الحكومة، وضد التهميش الذي يعاني منه الريف السوداني بسبب تلك السياسات".
فصول الصراع في قصة الترابي والبشير ليست فصول عادية بل تكتسب خصوصية لكونها يدور رحاها بين رجلين من نفس فسطاط الإسلام السياسي، يستخدمان نفس الشعارات ويستهلكان نفس البضاعة، فهي قصة تحالف تحول إلى خصومة ثم صارت عداء، ووصل الكيد بينهما مبلغ يعد مثلاً يدرس في انشقاقات الإسلاميين، ووصل الأمر أن طالب الترابي الرئيس عمر البشير بتسليم نفسه إلى المحكمة الجنائية الدولية التي كانت تستعد وقتها لإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور.
وإذا أردنا أن نكون منصفين فلا بد من إبداء الدهشة والاستغراب من موقف الترابي الذي تحولت حياته السياسية إلى عمل دؤب مستعر هدفه الانتقام من عمر البشير، فقصة هذا الثنائي التي وصلت إلى ذروتها في أواخر القرن العشرين عندما كانا يحكمان السودان في متلازمة جعلت البشير يمشي سنة وراء أخرى في ظل الترابي رجل البلاد القوي.
ومنذ متي يدافع الترابي عن "العدالة الدولية"، ومنذ متى يتضامن مع أميركا وبريطانيا وفرنسا ضد الحكومة المركزية في الخرطوم؟ ومهما حاول الترابي أن يجعل لوجهة نظره وجاهة قدسية وأن ثباته على مبادئه هو الذي دفعه إلى مطالبة البشير بالاستسلام للمحكمة، اذ يبدو أن الترابي نسي أو تناسى انه كان في وقت من الأوقات السياسي السوداني الأشد تطرفا، والصديق الصدوق لأسامة بن لادن حين كان يقيم في الأراضي السودانية.
وباليقين الترابي شخصن القضية وخلط بين دوافع الثأر من البشير وبين مستقبل السودان، ونستطيع القول بكثير من الاطمئنان أن الترابي المعروف بقدراته الخطابية والكلامية ما كان ليصبح من المدافعين عن المحكمة الجنائية ولا من المطالبين بمثول رئيس السودان أمامها لو أن مذكرة التوقيف تناولت أشخاصا آخرين غير عمر البشير، الذي نجح في تحجيم الترابي وجعله زبوناً دائما على السجون.
والمفجع الذي يهيل التراب علي تاريخ الترابي عندما تجد الشيخ يدعو الدول الكبرى إلى غزو السودان بهدف اعتقال البشير، لأول وهلة تحسب الترابي متحدث رسمي أميركي أو بريطاني، باليقين شخصية الرجل متقلبة لا تكاد تستقر أو تهدأ، أجتهد في السنوات الأخيرة أن يقدم نفسه زعيم للإسلاميين علي مستوي العالم كله للخروج من إحباطاته السياسية علي الساحة السودانية.
وعندما اندلاع ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، تقمص الترابي هذا الدور وندد بما سماه الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي ووصفها بأنها: "انقلاب على الدستور والشرعية" في حين أصدرت حكومة الخرطوم ردا اتسم بالحذر، وردد الترابي إن مرسي وقع ضحية لائتلاف بين الجيش والمسيحيين والليبراليين الذي يؤمنون بالديمقراطية لأنفسهم ولكن ليس للآخرين.
وليس هذا المنهج بمستغرب من الترابي وقد تعودناه ساحر الغرائب والأعاجيب ، فهاهو الرجل الذي كان الأب الروحي للانقلاب الذي قاده البشير في السودان في 1989، يأتي اليوم ليصف ثورة الشعب المصري بأنها انقلاب، ولله في خلقه شئون، وستحمل لنا قابل الأيام عدد من انقلابات الترابي الذي سيظل له السبق بين الإسلاميين المعاصرين في قدرته الفريدة علي لعب جميع الأدوار ممتطي صهوة الدين رافع شعار الجهاد، وكان الرجل الداهية صاحب السبق في تحويل الحرب في الجنوب من حرب أهلية سياسية إلي حرب جهادية دينية، وفي تلك الحرب صار المحاربون الجنوبيون كـفاراً يخضعون لضرب الرقاب، وتحول المحاربون الشماليون أبرارًا مجاهدون.
أنها لعبة احتكار الدين والحقيقة التي برع فيها الترابي، الذي تمكن بعصاته السحرية أن يلوث خصومه ويرميهم بالكفر وصبح عندها هدر دمهم حلالاً لا لبس فيه، مارس الرجل ولا زال يمارس غوايته مع الجميع الحلفاء كالبشير قبل الأعداء كقرنق.