حسن الترابي ساحر السودان.. جـزء 3
صبيحة يوم 30 يونيو 1989 أعلن التليفزيون السوداني عن استيلاء بعض من الضباط التابعين للجيش السوداني على الحكم بقيادة أحد ضباطه ويدعي العميد عمر حسن أحمد البشير، لم يكن واضحًا في بدء الأمر للمراقبين هوية الانقلاب الجديد ولا توجهات قادته، ساعد هذا الغموض في أن ينال الانقلاب تأييدا واسعًا - داخليا وخارجيا- ومن دول كثيرة بالمنطقة لاسيما مصر، التي لها بالقطع وزن كبير في المنطقة عامة، وفي الشأن السوداني علي سبيل الخصوص.
لا يخفى أن مصر كانت في حالة عداء دفين مع الصادق المهدي رئيس الوزراء وقتها. قامت الحكومة الجديدة بعدد من الاعتقالات الواسعة، واعتقلت لأيام ضمن من اعتقلت الدكتور حسن الترابي نفسه، الذي ظهر فيما بعد أنه مهندس الانقلاب ورأسه المدبر، فلم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أظهرت الحكومة هويتها الإسلامية شيئاً فشيئاً، وظهرت تصريحات من قادتها تؤكد تلك الهوية وانتمائها لتيار الإسلام السياسي في السودان.
وظهر الأمر أكثر بعد إطلاق سراح حسن الترابي، وتقلده لمناصب مهمة في الدولة كان آخرها رئيس المجلس الوطني "البرلمان".
بعد أن أسفر النظام عن وجهه الحقيقي لاقى معارضة كبيرة من أغلب الدول، كما كان لإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية أثرًا كبيرًا في إنشاء التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، وفي الوقت الذي استعرت فيه الحرب في الجنوب بصورة ضارية، كما رعت الدول الكبرى التجمع الوطني خصوصًا بعد انضمام الحركة الشعبية لتحرير السودان له، ومارست ضغوطًا كثيرة لإسقاط حكومة السودان.
لكن ورغم الضغوط الدولية التي واجهتها حكومة البشير والترابي، إلا أنها صمدت في وجه كل محاولات الإسقاط وعقوبات الإنهاك العسكري والحصار الاقتصادي المفروضة عليها، بل صعدت من نبرات العداء تجاه الدول الغربية، محتمية بتوجهها الديني، ودغدغة مشاعر البسطاء من سواد الشعب السوداني المؤمن بفطرته، والذي كان يتوق لرفع راية الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، والتزمت حكومة البشير الترابي بموقفها المعادي للغرب والرافض للتدخل الأجنبي إبان غزو العراق للكويت ونشوب حرب الخليج الثانية.. تمت محاصرة السودان ومقاطعته اقتصادياً وسياسياً من قبل العديد من الدول خصوصًا دول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة مما أدى إلى تدهور الاقتصاد السوداني بصورة كبيرة.
لم يطل الأمر طويلاً بتحالف البشير ومعلمه الترابي، فقد بدأت تتجمع نذر الشقاق المفضي للفراق، ثم للتقاطع. ووقعت الواقعة واندلع صراع الرجلين عاصفاً عنيفاً كما كان تحالفهم قوياً حميماً.
كان ذلك بعد أن تسرب إلى صحافة الخرطوم بأن الترابي الذي كان يشغل منصب رئيس المجلس الوطني "البرلمان" سيستقيل من منصبه ليتولى أمانة حزب المؤتمر الوطني الحاكم "بمفهوم تحول الحزب من وضع حزب الحكومة إلى حكومة الحزب"، وفعلاً جرى انتخاب الترابي للمنصب الجديد في فبراير 1998 وسط إشارات بتصدعات هنا وهناك في الجسد الحاكم في البلاد، وإشارات لا تخطئه العين عن أزمة مكتومة بين القطبين.
تشاء تصاريف القدر بعد 3 أيام من هذه الخطوة أن يلقى نائب الرئيس السوداني آنذاك الفريق الزبير محمد صالح مصرعه في حادث سقوط طائرة في جنوب البلاد لينشأ فراغ في المنصب، قرر الحزب الحاكم سده فدفع 3 أسماء للبشير لاختيار واحد منهم للمنصب وهم: الدكتور حسن الترابي، وعلي عثمان محمد طه، والدكتور علي الحاج محمد وذلك حسب نصوص الدستور، وقام البشير باختيار علي عثمان طه نائباً لمنصب النائب الأول، ولكن الترابي استقبل الخطوة بحسبانها تشكل بداية إعراض ورفض له بشكل أو آخر من قبل الرئيس البشير. وبداية لرحلة الانسلاخ عن بعضهما البعض، وعليه احترس زعيم الإسلاميين عن خطوة التخلي عن البرلمان والتفرغ للأمانة العامة للحزب؛ وبدأ يتحرك في اتجاهين لإعادة سطوته التى بدأت تتهاوى؛ وفي المقابل لم يكتفِ البشير بإشارته المرسلة إلى الترابي، ولكن بدأ يشعل الأرض من تحته داخل كوادر الحزب.
في ديسمبر 1998 فاجأ عشرة من قيادات الصف الأول المؤتمر الوطني اجتماعاً لمجلس شورى الحزب بمذكرة تحدثت لأول مرة عن هيمنة الترابي على الأداء في الحزب بصورة تقدح في هيبة الدولة وطالبت بتقليص صلاحياته كأمين عام للحزب، وتخويل بعضهاً إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحزب البشير، وصار اللعب علي المكشوف، وقرر الترابي فيما بعد استعادة منصبه رئيساً للبرلمان بصورة درامية حيث كان قد استقال في ديسمبر نفسه وجرى قبولها، ولكن جماعة أنصاره أعادته مرة أخرى إلى الكرسي . لتتصاعد الانقسامات.. وللحديث بقية إن كان في العمر بقاء..
كاتب المقال _ المستشار الدكتور محمد الدمرداش.