عاجل
الجمعة 01 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الادارة
رجب رزق
رئيس التحرير
سامي خليفة
الرئيسية القائمة البحث

حسن الترابي ساحر السودان.. جـزء 2


قـُدم المفكر السوداني محمود محمد طه للمحاكمة بتهمة الـردة، قاطع طه المحاكمة منذ البداية، ورفض أن يترافع المحامون المتطوعون عنه، في التهمة التي كيفها نظام النميري والترابي ضده، وآخر ما قاله: "أنا أعلنت مرارًا رأيي في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة، ومخالفة للإسلام، وأنها استغلت لإرهاب الشعب، كما أن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين تمامًا، تستعملهم السلطة التنفيذية لإضاعة الحقوق وتشويه الإسلام".

الرجل ببساطة اتُهم بالردة عن الإسلام وهو يدافع عن سماحته ونقائه في وجه من يريدون أن يمتطوه لتحقيق مآربهم، لم يعترف "طه" بالمحكمة، ليقينه بأنها انعقدت لتنطق بحكم سابق التجهيز، وهذا ما حدث بالفعل، لم يحاول النظام حتى أن يجمل صورته أو يضع بعض الرتوش والأصباغ، بل كان أعمى شديد القـسوة في تحقيق مراده، فقد عقد القاضي الهُمام جلسة واحدة ليس لها ثانية، وفى الثانية لم يتوانَ الرجل بل نطق بالحكم، ولم تستغرق المحاكمة الهزلية سوى 13 يومًا، اعتقل "طه" في يناير 1985، وصدر الحكم في 7 يناير، وفى 15 يناير صدر تأييد الحكم ورفض الطعن عليه، وتحدد للتنفيذ صباح الجمعة 18 يناير 1985!.

اقتيد الشهيد محمود طه إلى ساحة سجن كوبر، لينفذ فيه حكم الإعدام على رؤوس الأشهاد، كان الثبات هو التعبير المرتسم على وجهه، كانت عيونه متحدية، وفمه صارمًا، ثابت لا يرتجف، ولم تبدِ عليه مطلقًا أية علامة من علامات الخوف الذي يستولي على أي نفس تـُساق إلى الموت، بدأ الحشد المغرر به في الهتاف، بينما كان على المنصة مجندان يلبسان زيًا رملي اللون، يضعان عـُقدة الحبل على رقبة محمود طه، فجأة تراجع الحراس للوراء، ثم سحبت أرضية المنصة، ارتفع الشهيد إلى ربه، واشتعل الهدير في الساحة "الله أكبر"، ثم بدأ الحشد الكبير الغارق في غيبوبته فى تكرار الهتاف بشكل جماعي: "الإسلام هو الحل" الرجال الذين استبدت بهم الحماسة عانقوا وقبل بعضهم بعضًا، ولم يفهم هؤلاء العوام الذين هللوا لإعدام طـه فى ذلك اليوم أن الرجل الصالح نفى تمامًا أنه ارتد عن الإسلام، وكان هذا شرعًا يكفيه لدرء الاتهام الملفق له، ولم يستوعب هؤلاء البسطاء أن الرجل الذي يتدلى جسده أمامهم كان مصلحًا دينيًا مستنيرًا و ليس مهرطقًا ولا زنديقًا أو مرتدًا عن الإسلام حتى يكبروا على نحره، فهو ببساطة كان مفكرًا صلبًا في الحق ومؤمنًا صادقًا وقف فى وجه التطبيق الوحشي المشوه للشريعة الإسلامية.

والمدهش أنه بعد مرور 76 يومًا من تنفيذ الحكم سقط حكم نميري، وقبل أن يسقط الرجل اصطدم مع الحليف اللدود حسن الترابي، ففي أيامه الأخيرة أراد الترابي أن يغسل يده بعدما استيقن بذكائه أن النميري يتهاوى، فلم يكن بد من الصدام. وعـاد الترابي وإخوانه إلى السجون مرة أخرى.

ومثل لهم سقوط النميري مخرجًا سريعًا من غياهب سجن كوبر بالخرطوم لينهض الترابي سريعًا لتأسيس حزبه الجديد الجبهة الوطنية الإسلامية، ويشارك في الانتخابات البرلمانية يحدوه الأمل في تحقيق صدارة السباق، لكن الصاعقة التي زلزلت كيانه وإخوانه أن حل حزبهم ثالثًا في السباق بنسبة لا تتعدى 18 بالمائة من الناخبين.

سريعًا، وبدهائه المعتاد استطاع الترابي إعادة تدوير الهزيمة، فقد تزامنت الانتخابات مع الطامة الكبرى المتمثلة في إعلان صندوق النقد الدولي إفلاس السودان، وما صاحب ذلك من انهيار للاقتصاد واشتعال للحرب في الجنوب، هنا أطلق الترابي دعاته ومبشريه الذين جاسوا خلال الديار لإقناع البسطاء بأن المنقذ من الأزمة ومستنقع السقوط في كل الأصعدة هو منهج الترابي ومن معهم في فهم الإسلام، وخلال عامين حقق الترابي خطوات ملموسة للإمام في استجلاب المؤيدين؛ وحانت الفرصة للترابي ليعيد ترتيب اللعبة من جديد حينما أعلنت الحكومة في يونيو 1989 تعليق تطبيق القانون الإسلامي كمقدمة للمصالحة مع الجنوب. هنا صدرت الإشارة واستولى أتباع الترابي في الجيش علي مقاليد الأمور بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير قائدًا للواء الثامن مشاة، الذي شهدت فترة رئاسته الممتدة حتى كتابة هذه السطور تقلبات وانقلابات مع الترابي وجماعته.. وللحديث بقية إن كان في العمر بقاء.