عاجل
الجمعة 01 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الادارة
رجب رزق
رئيس التحرير
سامي خليفة
الرئيسية القائمة البحث

حسن الترابي ساحر السودان.. جزء 1


حسن الترابي.. العلامة والنبراس لتيارات الإسلام السياسي السودانية، والذي انتقل إلى جوار ربه منذ أيام، كان الرجل وبحق كان ساحر الجماهير، الممسك بزمام القلوب، والقوة الدافعة للحركة الإسلامية هناك، في الوقت الذي كان الرحم الأم في مصر يخوض محنته الثانية العاصفة في منتصف الستينات من القرن الماضي في مواجهتهم مع الزعيم جمال عبد الناصر، كان حسن الترابي يؤسس جبهة الشرعية الإسلامية، الملاحظ أن الجبهة من اللحظة الأولى تبنت خطاب الإخوان المسلمين المصريين ووجهة نظرهم في التنظير، لكن وفي نفس الوقت قلدت الحزب الشيوعي في التنظيم، وما بين تنظير الإخوان وتنظيم الشيوعيين كان لجبهة الترابي نكهتها المميزة.

طرح الترابي نظريته في الحل الإسلامي على أساس أن الإسلام قادر على تأمين مخطط شامل للتطور الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي في مواجهة كافة الأنظمة البديلة التي تطرح نفسها على الساحة من الاشتراكية والشيوعية، واجتذب الترابي بطرحه السهل وفصاحته قلوب كثيراً من السودانيين، وسهل له ذلك طبيعة الشعب السوداني شديد التعلق والإخلاص للدين، والذي كان يرسم طريق لبلورته على أرض الواقع عن طريق انخراط جمهرة كبيرة من السودانيين في الحركة المهدية، أو في الطرق الصوفية التي يتكاثر مريدوها في السودان خاصة الطريقة القادرية والرفاعية والأحمدية والشاذلية والميرغنية والختمية والتيجانية، واستطاع الترابي في خلال عشر سنوات أن يستقطب عدداً كبيراً من مريدي الطرق الصوفية المنتشرين في كل ولايات السودان، كما تمكن من التواجد بشكل ملحوظ في صفوف طلبة الجامعات السودانية. 
  
في الوقت الذي كان الترابي وجماعته يتغلغلون في مفاصل السودان أطاحت حركة الضباط الأحرار في مايو 1969 بقيادة جعفر نميري بالجمهورية، وأعلنت مجلس قيادة ثوري، علي غرار النسق الذي سبقهم فيه الزعيم جمال عبد الناصر، وتكاد أن تتشابه الظروف، فكما دخل ناصر في صدام مع الإخوان والشيوعيين في آن واحد، كان ذلك هو نفس مصير نميري ورفاقه الذين ما لبثوا أن اشتعل الصراع بينهم وبين الإخوان والشيوعيين، كما واجه نميري موقفاً صعباً فرضته طبيعة السودان التي شاءت الأقدار بأن يكون مربعا لأقوام مخـتلفي اللغة والأديان والمنابت، من هؤلاء من ترعرع أسلافهم فيه، ومنهم من وفد أسلافهم إلى رُبـاه وطاب لهم المكان فاستقروا فيه وأقاموا؛ لهذا أصبحوا جميعا أصحاب حق أصيل في البلاد، وقد يكون ذلك مصدر خير داني النتاج، كما قد يصبح ذريعة شر واقتتال، وصدق الله "ونبلوكم بالشر والخير فتنة".

كان الصدام مع الشيوعيين سريعاً ودامياً وكان الضحايا في هذا الصراع كـُثر على رأسهم أحد أصحاب الفكر الخلاق في تاريخ السودان الحديث، وهو المرحوم عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني الذي كان ذا حضور مؤثر في المحافل الشيوعية العالمية، ألف عدد من الكتب القيمة، وحاول فيها طرح وإيجاد صيغة سودانية للماركسية بـدلا عن التطبيق الحرفي للصيغـة السوفييتية أو الصينية، ورفض بشكل قاطع التبعية للحزب الشيوعي السوفييتي على النقيض من عدد كبير من الأحزاب الشيوعية الأخرى، كما كان رحمه الله يرفض الربط بين الشيوعية والإلحاد، وأن الشيوعية مذهب اقتصادي ومنهج للحكم الرشيد لا يمكن بحال اعتبارها بديلاً عن الإسلام. 
  
انتهز النميري فرصة انقلاب هاشم العطا يوليو 1971 الذي استولى على السلطة لمدة ثلاثة أيام قبل أن يسترد النميري السلطة، فاتهم الحزب الشيوعي بتدبير الانقلاب نظراً لاشتراك عدد من الضباط المنضمين للحزب الشيوعي فيه وعلى إثر ذلك تمت تصفية عدد كبير من قيادات الحزب الشيوعي وعلي رأسهم محجوب، الذي انتهت حياته علي حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 28 يوليو 1971م، وبموته لم يعد الحزب الشيوعي السوداني لسابق نفوذه أبدا بعد إعدام أغلب قيادات الحزب. وانتهي فصل من الفكر في الحياة السياسية والاجتماعية السودانية.

في العام 1977 بدأ النميري التحرك في الاتجاه المعاكس، لم يتعلم الرجل من خطيئة السادات الكبرى فأراد أن يستخدم تيار الإسلام السياسي للقضاء التام علي الحزب الشيوعي الذي كان قد ناله الإجهاد، ولكن أنتهي الأمر أن انقلب السحر علي الساحر.

لم يتعلم نميري من درس مصر، اقترف بسذاجة خطيئة السادات الكبرى .. أخرج السبع من محبسه ، معلناً للشعب الحاجة إلي مصالحة وطنية، وسعياً في الحقيقة وراء إضفاء شرعيةٍ أكبر وأعمق لنظامه ، دخل نميري في تفاهمات مع الترابي بعد أن أطلق سراحه من السجن، سمح له وجماعته بدخول الانتخابات ، وزادت حرارة العلاقة وتطورت فنصب الترابي نــائباً عاماً للسودان ! وسبحان مقلب الأحوال ، سجين بالعشية صبيحتُه نائب عام ؛ لكنها السياسة وتقلباتها كساقية لا تكف عن الدوار . ترفع وتخفض وتقيم وتكسر.
  
لم يكن هذا الانقلاب في المواقف سهلاً علي عدد كبير من رفاق الترابي، فبالأمس القريب تعرض محور الترابي – المهدي "وبالمناسبة كانت تربطهما مصاهرة" الذي أطلقوه لمحاربة السلطة لهجوم عدد من الإخوان، فقد اعتبره البعض احتراباً بين مسلمين غير سائغ التبرير، والمذهل أنه بعد أقل من عام و ببرجماتية منقطعة الوصف والنظير يدلف القطبان إلي موادعة وتحالف مع النميري عدو الأمس القريب، لم يستطيع الترابي أن يبرر تقلباته لكثير من أنصاره ، فكيف لمن كان يحارب النظام أن ينقلب بين عشية وضحاها نائباً عاماً في ظل نفس النظام ؟ والحق يقال إن الرجل خطيب مفوه لاذع العبارة شديد الميل يصفق خلف كلماته أبواب الرجوع، فتصير ردته عمـَا ما صدح به تقلباً غير مهضوم على العقول السوية. 

فـأَنَّىٰ للرجل الذي كان يقصف نميري وانقلابه فيودعهم السجون أن يجلس علي مائدة واحدة معه يدير ويقول، ورغم عدم تغير مضمون حكم نميري الذي كان يصمهم بأنهم غير شرعيين ومجرد انقلاب. وبسبب ذلك الانقلاب المنهجي انفصلت مجموعة من الإخوان عن الترابي وفريقه، قادهم الصادق عبد الماجد ويوسف نور الدائم، واحتفظ الـمنشقين عن حسن الترابي بلقب الإخوان المسلمين، وارتبطوا بالتنظيم الدولي، لكن هذا الانقسام لم يعره الترابي اهتماماً، بل اجتهد الرجل لتوجيه أنصاره بعدم الرد علي هجوم المنشقون أو الدخول معهم في صدامات أو مجادلات تذهب بعيداً، وهذه ميزة سياسية في شخصية الترابي، إذ يبقي دوما شعرة معاوية مع أي تنظيم إسلامي مهما تعاظم بينهم الخلاف، وحتي لمن يبلغ الشطط في خصومته له كحال المجموعة الإخوانية التي تزعمها الشيخ سليمان أبو نارو التي شطت حتى كفرت الترابي وإخوانه، وحقيقة لم يكن وزن المنشقين مؤثراً بصورة عامة علي قدرة الترابي على أمساك الزمام والتحكم في مفاصل تيار الإسلام السياسي بالسودان، وكان الرجل وبحق صاحب نظرية ميكيافيلية في "تسييس الدين" و"تديين السياسة".

كما استخدم الترابي سياسة النفس الطويل مع القوى والحركات الوطنية الأخرى مهما بلغت مساحة الخلاف معها، فقد اجتهد في سوق عقول مريديه بعيداً عن الفكر الجهادي أو التكفيري أو الوقوع في فخ المفاصلة، أي فصل نفسها عن المجتمع الجاهلي. وباليقين أن ذلك التوجه يتماشى مع روح التسامح السائدة في السودان المتعدد الديانات والأعراق بصورة لا نظير لها علي وجه الأرض . وقد تعلم الترابي من درس التيارات الإسـلامية في مـصر التي أسرفت وأبدعت في القول بالتكفير. وإن ظل الرجل يدخر في جعبته بعض فتاوى التكفير عند لزوم الأمر واشتداد الظرف.
  
المهم بدأ تنفيذ اتفاق نميري - الترابي لأسلمة السودان، ففي عام 1983 ألقى نميري عصاه السحرية فأعلن أن الشريعة الإسلامية صارت هي قانون البلاد، واستخدم المد الجارف الذي يهتف في كل أرجاء السودان "الإسلام هو الحل"، وسيلة للحشد لمواصلة المجهود الحربي في جنوب السودان بعد تجدد القتال. 

سرعان ما شكل النميري محاكم الطوارئ الخاصة بما ظنه تطبيقا للشريعة، لتندفع تلك المحاكم فى طريق بتر الأيدي فى قضايا سرقات لم يستوف أغلبها الأركان الموجبة المتفق عليها للحد، والتشهير بالناس ـ رجالا ونساء ـ بتهمة كوميدية ما أنزل الله بها من سلطان هي: الشروع فى الزنا، كانت بالقطع محاولة فجة لتطبيق الشريعة، عاونه فيها من بعيد الترابي، الذي كـان حريصاً على أن يدبر الأمور ولا يبوء بإثمها.

تبرئة للإسلام العظيم من تلك القوانين المزعومة أصدر المفكر السودانى محمود محمد طه منشورا عنوانه "هذا أو الطوفان" انتقد فيه ما كان يجرى وقتها، وفحوى المنشور أن "قوانين سبتمبر المسماة قوانين إسلامية تشوه الدين وتهدد الوحدة الوطنية للبلاد"، وعندما وقع المنشور فى أيدي جلاوزة نميري سارع ومستشاروه بتدبير محاكمة صورية للمفكر محمود محمد طه. وكانت التهمة هي الــردة، وهي التهمة التاريخية التي لا يستغنى عنها كل طاغية في مواجهة العقول الحرة، وجرت وقائع المحاكمة العجيبة.. وللحديث بقية إن كان في العمر بقاء.
  
• كاتب المقال المستشار الدكتور محمد الدمرداش