صدمة في لبنان بعد وقف المساعدات العسكرية السعودية للجيش والقوى الأمنية.. نبرة متصاعدة تنذر بأزمة بين بيروت والرياض تحركها إيران.. وحزب الله "كلمة السر"
أثار قرار المملكة العربية السعودية وقف مساعدتها العسكرية المقدرة بأربعة مليارات دولار للجيش والقوى الأمنية اللبنانية ردود فعل واسعة في العديد من الأوساط اللبنانية، كما أشاع العديد من المخاوف من إجراءات خليجية أخرى في ظل تصاعد توتر العلاقات بين دول الخليج العربي من جهة، وبين حزب الله اللبناني وإيران من جهة أخرى.
القرار جاء بسبب امتناع وزير خارجية لبنان جبران باسيل عن التصويت لصالح قرارين في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لإدانة الهجوم على السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مدينة مشهد الإيرانية في ظل استمرار هجوم حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله وأعضائه ووسائل الإعلام المحسوبة على السعودية وخاصة دورها في حرب اليمن والأزمة السورية.
وحمل قياديون في قوى 14 آذار حزب الله مسئولية القرار بسبب تهجمه الدائم على السعودية كما قال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي اتهم الحزب بالتسبب في ضياع مليارات الدولارات على لبنان، حيث أن المملكة سبق أن خصصت ثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني من فرنسا إضافة إلى مليار دولار أخرى كانت يفترض أن توزع مناصفة بين الجيش والأمن اللبنانيين، وقد أنفق نصفها بالفعل لصالح شراء معدات عسكرية وأمنية للبنان.
من جانبه، أعرب رئيس تيار المستقبل اللبناني سعد الحريري عن تفهمه التام لقرار المملكة العربية السعودية وقف مساعدتها المقررة للجيش والأمن اللبنانيين، نظرا لحجم الألم الذي وقع جراء اتخاذ وزير الخارجية اللبناني قرار يجافي المصلحة اللبنانية والإجماع العربي.
وأضاف: لقد تلقى اللبنانيون بمشاعر الأسف والقلق، قرار السعودية، وقف المساعدات المقررة للجيش اللبناني والقوى الامنية، في خطوة غير مسبوقة من المملكة، ردًا على قرارات متهورة بخروج لبنان على الإجماع العربي، وتوظيف السياسة الخارجية للدولة اللبنانية في خدمة محاور إقليمية، على غرار ما جرى مؤخرا في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب واجتماع الدول الاسلامية.
وقال إن المملكة العربية السعودية، وإلى جانبها كل دول الخليج العربي، لم تتأخر عن دعم لبنان ونجدته في اصعب الظروف، فيما ينبري حزب الله وأدواته في السياسة والإعلام، لشن أقذع الحملات ضدها.
وشدد على أنه إذا كان هناك من يفترض أن لبنان يمكن أن يتحول في غفلة من الزمن، إلى ولاية إيرانية فهو واهم، بل هو يتلاعب في مصير البلاد ويتخذ قرارا بجر نفسه والآخرين إلى الهاوية.
وأكد رئيس مجلس الوزراء اللبناني تمام سلام أن قرار المملكة العربية السعودية بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي اللبنانيين هو شأن سيادي تقرره المملكة وفق ما تراه مناسبا، مؤكدًا على المكانة الكبيرة للسعودية لدى اللبنانيين وحرص لبنان على العلاقة معها.
وقال لقد تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجىء القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي.
وأضاف أن الأمانة تقتضي القول إن للمملكة العربية السعودية مكانة كبيرة في وجدان اللبنانيين، الذين يعرفون تماما مواقفها التاريخية الداعمة لهم وحرصها الدائم على كل ما يعزز أمن لبنان واستقراره ووحدته.
واختتم بيانه بالقول "نتمنى إعادة النظر بالقرار الخاص بوقف المساعدات عن جيشنا وقواتنا الأمنية".
ولبنان منذ نشأته ككيان حديث عام 1920 تحت الانتداب الفرنسي والذي عرف بلبنان الكبير، ارتبط اقتصاديا بالعالم العربي نظرًا لموقعه الجغرافي وطبيعة اقتصاده الخدمي وقلة موارده الزراعية والصناعية وحرياته السياسية والاقتصادية النادرة في المنطقة، ووفرة العنصر البشري والمتعلم والمنفتح الذي افتقدت إليه كثير من الدول العربية الأخرى.
فمناظر جبال الخضراء وسواحله الممتدة، جذبت السياح العرب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قبل استقلال البلاد وكان أغلبهم من مصر ثم العراق وفلسطين، كما شكل ميناء بيروت منفذا رئيسيا لتجارة المشرق العربي كله، وفي الوقت ذاته فإن النظام المصرفي اللبناني المتطور والمبكر في نشأته كان يستوعب جزءا من فوائض الأموال المصرية في عهد ازدهار القطن المصري.
ومع تغيير الشكل الاقتصادي في المنطقة وظهور النفط أصبح لبنان من أهم مستقبلي السياحة الخليجية والأموال النفطية، وحتى في ظل الحرب الأهلية التي دامت ما يقرب من 15 عاما لم يتوقف عن هذا الدور الذي وصل للذروة في عهد رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري الذي كان يحمل الجنسية السعودية، وقامت سياسته على التفاهم بين سوريا والسعودية فيما يعرف باسم سياسة "س س"، فترك لدمشق الملف الأمني والعسكري بشكل كبير، فيما تولى هو جلب المساعدات والاستثمارات الخليجية للبنان وتنظيم سياسة خارجية بالتنسيق مع دمشق والرياض مع علاقة خاصة مع فرنسا، ومساحة تواصل مع واشنطن.
ولكن اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005 وما سبق هذه الجريمة المروعة من خلافات بينه ودمشق بعد تولي الرئيس السوري بشار الأسد السلطة شكل ضربة قاصمة لسياسة "س س"، ورغم توتر العلاقات السورية السعودية على خلفية الخلاف حول لبنان، فإن المملكة واصلت دعمها للبنان ولعبت هي ودول الخليج دورًا كبيرًا في إعمار البلاد بعد تدميرها خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006.
وبعد الإعمار، تواصل الدعم السعودي للبنان سواء لتيار المستقبل أو المجتمع المدني اللبناني، أو الدولة اللبنانية، وهو الدعم الذي وصل لذروته بإعلان الرئيس اللبناني ميشال سليمان في ديسمبر 2013 عن قرار خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز تقديم مساعدات قدرها ثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني من فرنسا، ثم إعلان رئيس تيار المستقبل سعد الحريري أن الملك عبد الله قدم مليار دولار لدعم الجيش والأمن اللبنانيين (تقريبا مناصفة بين الإثنين) لمواجهة الإرهاب على أن يكون إنفاق هذه الأموال في عهدة الحريري، وبالفعل فقد تم إنفاق نصف المبلغ الأخير تقريبا (نحو 500 مليون دولار).
والحقيقة أن القرار السعودي بوقف المساعدات العسكرية للبنان، جاء ليشكل حلقة من سلسلة طويلة من التحركات الخليجية، التي يمكن وصفها بالتخارج من لبنان أبرزها توقف السياحة الخليجية إلى لبنان منذ بداية الأزمة السورية ردا على تدخل حزب الله في سوريا، وازداد التوتر بعد مواقف الحزب من أزمة البحرين وحرب اليمن، كذلك توقف تدفق الاستثمارات الخليجية، بل وخروج بعضها.
وأدى تواصل التوتر في العلاقة بين دول الخليج وحزب الله وما يعرف ببيئته الحاضنة، إلى خلق جو "غير مريح" في العلاقة بين مؤيدي الحزب وأهل الخليج الذين غابوا عن شوارع بيروت وهم الذين يمتلكون بها عددا كبيرا من العقارات وبالجبال المحيطة بها مثل مدينة عاليه، وأصبحت كثير من "فيلات" أهل الخليج في لبنان "بيوت أشباح" لايسكنها إلا حراسها.
واستمر التوتر في العلاقة بين الحزب والخليج العربي رغم محاولات رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري حليف حزب الله وشريكه في زعامة الشارع الشيعي تقليل التوتر بين الجانبين أو على الأقل تحجيمه ليكون توترا بين الخليج والحزب وليس مع الشارع الشيعي اللبناني برمته، وهي المحاولات التي قوبلت بإيجابية من دول الخليج فكان حرص سفير السعودية في لبنان على عواض عسيري مؤخرًا على زيارة بري وتقديم دعوة له لزيارة المملكة، لكن هذه المحاولات قابلها في الأغلب تصعيد من قبل حزب الله، فاق في حدة لهجته أحيانا الإيرانيين.
وتاريخيا عانى لبنان منذ الاستقلال من الصراع حول إنتمائه وتوجهاته السياسية، فقد كان جزءا من النخبة المارونية الحاكمة بعد الاستقلال يميل لعلاقات قوية مع الغرب، وعلاقة جيدة مع الخليج العربي قائمة على المصالح الاقتصادية والتخوف من المد الثوري العربي، بينما كانت تتحفظ هذه النخب على العلاقة المميز مع مصر الناصرية التي كانت محط قلوب وأسماع وأنظار شريحة كبيرة من اللبنانيين.
في المقابل، فإن النخب القومية اللبنانية كانت تعتبر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر زعيمها، إلا أن الأهم أن النفوذ السوري كان يفرض نفسه على البلاد بشكل كبير بحكم الجغرافيا وازداد هذا النفوذ السوري قوة في البلاد مع وصول الرئيس السوري حافظ الأسد للسلطة في دمشق كوزير دفاع في نهاية الستينات ثم رئيسا للجمهورية، ومع انشغال مصر بنتائج حرب 1967 ووفاة جمال عبد الناصر.
وازداد النفوذ السوري في لبنان بدخول القوات السورية في منتصف السبعينيات ضد القوى الفلسطينية وحلفائها من اليساريين والقوميين بزعامة الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يترأسه الزعيم الدرزي كمال جنبلاط لصالح القوى اليمينية المسيحية، واستطاعت دمشق أن ترسخ نفوذها عبر الوجود العسكري المباشر والقبضة الأمنية القوية التي لم يألفها اللبنانيون، ومن خلال تعزيز التحالف مع عدد من القوى المحلية خاصة الشيعية إضافة إلى إضعاف القوى الناصرية (كانت تنتشر في الأوساط السنية وإلى حد ما الشيعية) والتي كانت تقليديا حليفة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي خرجت من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي في مطلع الثمانينات لتنفرد سوريا بالنفوذ العسكري والأمني مع انتهاء الحرب الأهلية بالقضاء على قوات العماد ميشال عون وتحييد باقي الميلشيات بمباركة عربية ودولية حصلت عليها بفضل موقفها المؤيد للتحالف الدولي والعربي الذي تشكل إثر الغزو العراقي للكويت في مطلع التسعينيات.
كما عمدت سوريا خلال فترة وجودها في لبنان إلى إضعاف القوى المنافسة وتفتيتها ثم التحالف مع بعض زعامات هذه القوى بعد تخييرها بين التحالف أو الإقصاء، مثلما حدث مع حزب القوات اللبنانية حيث تحالفت مع أبرز زعماء القوات إيلي حبيقة، في حين تم وضع منافسه في الزعامة على الحزب سمير جعجع في السجن.
وبالتزامن مع هذه السيطرة السورية، ظهر رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري في مطلع التسعينيات وبعد انتهاء الحرب الأهلية مدعما بإتفاق الطائف الذي كان الحريري عرابه وبتوافق "سعودي - سوري"، حيث استطاع الحريري إقامة علاقة متوازنة مع دمشق ترك عبرها المجال لسوريا في الملفين الأمني والعسكري مع ترك الاقتصاد له كذلك جعل لبنان جزءا من المنظومة العربية الرسمية من خلال علاقة جيدة جدا مع دول الخليج ومصر، والمجتمع الدولي، بل جعل لبنان قناة اتصال بين سوريا وبين الدول الغربية.
وخلقت هذه المقاربة وضعا أصبح فيه لبنان، دولة على علاقة جيدة بالجميع، أولها سوريا التي كانت أشبه بدولة وصاية وعلاقة مع إيران عبر المؤسسات الشيعية الدينية والأهلية، وعلاقة جيدة مع الغرب ووثيقة مع العالم العربي خاصة الخليج عبر مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية الخاصة خاصة المصرفية.
وفي ظل هذا الوضع كان لافتا أن حالة التعايش الأممي هذه وصلت إلى أن الجيش اللبناني أصبح ينسق ميدانيا مع الجيش السوري وحزب الله وفي الوقت ذاته كان معظم سلاحه أمريكي المصدر، وهو الأمر الذي مازال قائما حاليا بشكل غير مباشر وبالتحديد مع حزب الله.
وخلال فترة رفيق الحريري أصبح لتيار المستقبل اليد العليا في الاقتصاد ومؤسسات الدولة السياسية بينما السيطرة الأمنية والعسكرية لسوريا وحليفيها الشيعين،(حركة أمل وحزب الله)، اللذين استثنيا من خطة نزع سلاح الميلشيات باعتبارهما حركتي المقاومة.
وفي ظل السيطرة السورية تزايدت قوة حزب الله الذي كان محسوبا على إيران أكثر من حركة أمل التي كانت مقربة لدمشق خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000 الذي زاد مكانة الحزب في المجتمع اللبناني، ليصبح الحزب أكبر قوة أمنية وعسكرية وسياسية بعد انسحاب القوات السورية من البلاد عام 2005، بل يتحول الحزب الذي نما في البداية تحت الرعاية السورية وبدعم إيراني إلى القوة العسكرية الرئيسية التي سارعت لنجدة نظام الرئيس السوري بشار الأسد مع قيام الثورة السورية، وليتحول الوضع في لبنان من سيطرة سورية مباشرة بالتعاون مع الحلفاء اللبنانيين، لسيطرة أمنية لحزب الله لصالح التحالف مع إيران وسوريا.
وبينما حاولت دول الخليج تفهم الوضع الداخلي اللبناني وتوازناته الدقيقة هذه، إلا أنه جاء الموقف الأخير لوزير الخارجية اللبناني جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر حليف حزب الله ليكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات اللبنانية الخليجية.