ننشر كلمة الرئيس السيسي في الاحتفال بـ "ليلة القدر "
شارك الرئيس عبد الفتاح السيسى اليوم في احتفال وزارة الأوقاف بليلة القدر، وذلك بحضور المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية السابق، والدكتور على عبد العال رئيس مجلس النواب، والمهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وعدد من الوزراء وكبار المسئولين، وشيوخ وأئمة الأزهر والأوقاف.
وقد ألقى كل من فضيلة الأمام الأكبر شيخ الأزهر والدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف كلمة بهذه المناسبة، وقام وزير الأوقاف بإهداء الرئيس نسخة من موسوعة "الدروس الأخلاقية" التي أخرجها شباب علماء وزارة الأوقاف ونسخة من كتاب "الزهروان في متشابهات القرآن" لعدد من الباحثات المصريات والواعظات من وزارة الأوقاف.
وقد كرم الرئيس عدداً من المصريين والعرب والناطقين باللغة العربية الفائزين في مسابقة حفظ وتفسير القرآن الكريم، كما ألقى كلمة بهذه المناسبة، فيما يلى نصها:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
* فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف،
* العلماء الأجلاء،
* ضيوف مصر الأعزاء، الحضور الكرام،
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
اسمحوا لي في البداية أن أتوجه إليكم، وإلى جميع المصريين والمسلمين في أنحاء العالم، بالتحية والتقدير والتهاني.. كل عام وأنتم جميعاً بخير.
أتحدث إليكم اليوم، احتفالاً بليلة القدر، ذات المكانة الخاصة لدى مسلمي العالم، الليلة التي أنزل الله فيها القرآن الكريم، يهدي به إلى الخير والسلام والبناء، وينهى عن الشر والفرقة والأذى، ليلةٌ وصفها جلّ وعلا بأنها كألف شهر، وسلامٌ هي حتى مطلع الفجر، واليوم إذ نحتفل بهذه الليلة، نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالرجاء، أن يجعلها على الدوام سلاماً علينا، وعلى أمتنا، وعلى عالمنا بأسره.
السيدات والسادة،
مضى شهر رمضان الكريم علينا سريعاً، جاء في موعده ككل عام ليحتفل به المصريون كعادتهم على طريقتهم الفريدة، التي تجمع بين الدين والدنيا، في مزيج متفرد بحجم تفرد شخصية هذا الشعب العظيم الكريم، الذي عرف كيف يتصالح مع الزمن ويصادقه، فاستحق أن توصف بلاده بأنها أم الدنيا، ويكون هو المعلم الأول للإنسانية.
ولكن، هل تشبه الليلة البارحة؟ أم أنه قد جرت تحت الجسور مياه كثيرة؟ وإذا نظرنا إلى أحوالنا وتساءلنا بصدق وصراحة: هل نحن راضون عما آلت إليه أحوالنا، كمصريين وعرب ومسلمين؟ هل نحن في المكان الذي نريده لأنفسنا وأبناءنا وسط دول العالم وحضاراته؟ هل نشارك بقوة وفاعلية وثقة في صنع وقيادة الحضارة الإنسانية الحالية؟ هل نحن في موقع الصدارة في تحقيق الاكتشافات العلمية والتكنولوجية؟ هل نُصَدِّر إلى العالم التسامح والتنوع والتعايش المشترك؟ وأخيراً، هل انتهى الفقر والمرض والجهل من بيننا وأصبحنا آمنين مطمئنين على مستقبل أولادنا وبناتنا؟.
واسمحوا لي أن أقدم محاولة متواضعة للتفاعل مع ما سبق من أسئلة، من خلال مناقشة العلاقة بين ثلاثة مفاهيم، وهي الفهم الديني، والإرهاب، والتنمية، علّ ذلك يطرح نقاشاً مجتمعياً واسعاً، يركز على الصورة الكبيرة الشاملة، بدلاً من الاجتزاء والاختزال والتحليلات غير الموضوعية.
فأولاً، لا يخفى عليكم، أنه قد خرجت من بيننا جماعات وأفراد أساءوا فهم الدين، وفي أحيان أخرى كثيرة تعمدوا إساءة فهم الدين واستغلاله لتحقيق أهداف سياسية، ودأبوا على مدار عقود من الزمان على التأويل المتعسف للنصوص الدينية، ليُخرجوا منها ما يجعل الدنيا سَواداً، ويملأ القلوبَ كراهيةً، ويغرس في العقول أقصى معاني التطرف والانغلاق.
إن هذه الإساءة المتعمدة لفهم الدين، وهذا الخطاب المتشدد الإقصائي، لم يساهما فقط في توفير البيئة الخصبة لانتشار الإرهاب والعنف والتطرف، ولكن قاما كذلك بتسميم مُجمل نواحي الحياة، بعيداً عن المبادئ التي أرستها الديانات المختلفة، والتي تضمنتها الكتب السماوية.
لذلك، فإنني أكرر أن تصويب الفهم الديني، وتجديد مجمل الخطاب الديني، دون المساس بالثوابت، هو قضية حياة أو موت لهذا الشعب وهذه الأمة: أن ننظر بجدية إلى أفكارنا، وما نردده، وما ننقله وننشره، وما نربي عليه أبناءنا؛ أن نعلم الناس الدين الصحيح، البسيط، السهل، الذي يراعي حياة الناس وظروفهم؛ أن نؤسس خطاباً دينياً حديثاً يبني مجتمعاً متماسكاً، يسوده التسامح والعدل والرحمة؛ خطاباً يربي أجيالاً قوية واعية مخلصةً لوطنها وشعبها، تعيد لمصر مجد ماضيها وتحافظ عليه إلى ما شاء الله.
وإنني أذ أثمن عالياً وأشيد بدور الأزهر الشريف، مؤسستنا العملاقة التي نفتخر بها، والتي كانت على مدار أكثر من ألف عام، ومازالت، وستظل، أهلاً للافتخار والثقة، فإنني أؤكد أن هذه المسئولية تقع على عاتق المجتمع بأسره، الذي يتعين عليه أن يقف وقفةً صادقة مع ذاته، يقرر فيها أنه قد آن الأوان للنظر إلى المستقبل وبنائه بدلاً من التعلق بأهداب الماضي؛ يقرر فيها أنه قد آن أوان نبذ التطرف والإقصاء والانغلاق والتشدد، والانفتاح على الدنيا بثقة وحب وتسامح ورحمة، وإنني لعلى ثقة مطلقة في قدرتنا جميعاً: المؤسسات الدينية ورجال الدين والفقه، المجتمع وقواه الحيَة وقوته الناعمة، المفكرين والمثقفين والعلماء والفنانين، في أن نقدم للعالم نوراً يشع من مصر، ونموذجاً للخطاب الديني المتطور، نحقق به الحُسنَيَيْن: إرضاء الله سبحانه وتعالى، وتعمير الأرض وإسعاد البشر.
يجب علينا أن نتساءل حول العادات الأخلاقية والمجتمعية المنتشرة بيننا وحول مكانتنا بين مختلف دول العالم، وعما إذا كنا نطبق تعاليم النبى محمد (ص)، سنحاسب جميعاً أمام الله على أفكارنا وأفعالنا، وعما إذا كانت تلك الأفعال موجهة لصالح الناس أم لا.
نحن بحاجة إلى أن نقف ونتدبر أمرنا وكيف يمكن أن نتعامل مع واقعنا وأن نربى أولادنا، وأن نبدأ في تطبيق الرؤى والأفكار على أرض الواقع.
السيدات والسادة،
يقودنا الحديث عن تجديد الخطاب الديني، إلى ثاني ما يعيقنا عن تحقيق أهدافنا وتبوء ما نتمناه من مكانة، وهو الإرهاب، بكل ما يتسبب فيه من إزهاق للأرواح البريئة، وألم في الصدور، وشعور بالقلق وعدم الأمان، وإهدار للفرص الاقتصادية، وتعطيل للتنمية، وتأثير سلبي على مجمل أوضاعنا السياسية والاجتماعية.
والإرهاب، كما قلت من قبل في الشهر الماضي، يتطلب أربعة عناصر لمواجهته والقضاء عليه، منها تجديد الخطاب الديني، والتعامل مع جميع التنظيمات الإرهابية بمعيار واحد، وإعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها لاستعادة الاستقرار بالمنطقة، وأخيراً، منع تمويل الجماعات الإرهابية وإيقاف مدها بالسلاح والمقاتلين.
واسمحوا لي أن أتحدث إليكم بصراحة: فبينما نبذل نحن، حكومة وشعباً، أقصى الجهد في مكافحة الإرهاب، والتصدي له عسكرياً، وأمنياً، وفكرياً، وسياسياً، ونبذل كذلك أقصى الجهد في دعم التسويات السياسية السلمية للأزمات القائمة في المنطقة، بما يعيد لدولها الاستقرار والأمن، ويقضى على الفراغ الذي يستغله الإرهاب ليتمدد وينمو؛ بينما نفعل كل ذلك، نجد أشقاءً لنا، وغير أشقاء، يقومون بدعم الإرهاب، وتمويله، ورعايته، نجدهم يوفرون لجماعات الإرهاب، وفكر الإرهاب، المنابر الإعلامية والثقافية، ينفقون عليها مليارات الدولارات سنوياً ليستميلوا أفئدة الشعوب العربية والإسلامية لهذا الفكر الإجرامي المدمر، يستغلون التكنولوجيا الحديثة وما أنتجته الحضارة الإنسانية لضرب هذه الحضارة وهدم ما حققته الشعوب من مكتسبات وما تنعم به من أمان.
وكل ذلك لماذا؟ ابتغاء أوهام الهيمنة والسيطرة والعظمة الزائفة؟ هل أصبحت مقدرات الشعوب لُعبةً سياسية؟ هل تهون أرواح الشباب والرجال والنساء والأطفال من أجل أحلام الزعامة والمجد الكاذبة؟ هل تستحق هذه الأوهام إزهاق روح إنسانية واحدة؟.
إنني، وبكل الوضوح والصراحة، أقول لكم وللعالم، أنه يجب أن يتم وضع حد لهذا الأمر.. إن التصدي للدول الراعية للإرهاب بكل حسم وقوة أصبح فرضاً واجباً إذا ما أردنا نهاية حقيقية لظاهرة الإرهاب. أقول إن استراتيجية مكافحة الإرهاب يجب أن تسير على أقدام ثابتة وليست مرتعشة، وإن القضاء على خطر الإرهاب لا يمكن أن يتم بدون تدمير بنيته التحتية سواء المالية أو الفكرية، وأقول لهذه الدول: كفاكم تمادياً وتَعالَوْا إلى كلمةٍ سواء نجتمع فيها على التعاون والخير والبناء لما فيه صالح شعوبنا، كما أقول للشعب المصري العظيم إن أمن مصر القومي هو خط أحمر لا تهاون فيه، وأن مصر ستنتصر بمشيئة الله على الإرهاب، بفضل صمودكم أيها المصريون، وبفضل تضحيات رجال القوات المسلحة والشرطة.
السيدات والسادة،
شعب مصر الأبيّ الكريم،
أخيراً وليس آخراً، فإن الضلع الثالث من مثلث التقدم، وهو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وثيق الصلة بما سبق من مفاهيم.
فالتنمية الحقيقية الشاملة التي تنقلنا من حال إلى حال، تحتاج لكي يتوفر المناخ الملائم لها، إلى خطاب ديني وفكري وثقافي متطور، ومجتمع ودولة خاليين من الإرهاب بصوره المختلفة. فبدون ثورة فكرية شاملة، نغير بها طريقة نظرنا للأمور، ونوثق اتصالنا بالعالم الحديث، وروحه العصرية المنطلقة، لن يمكن تحقيق التنمية التي نصبو إليها، فالتنمية لا تقوم على الأساس المادي فقط، بل تستلزم أساساً فكرياً ومعنويا وروحياً، ولا أجد أدل من كلمات الكاتب الراحل الدكتور/ يوسف إدريس عندما تحدث عن "فقر الفكر، وفكر الفقر"، فالحقيقة أننا نحتاج إلى غنى الفكر وثراؤه وتجديده وانفتاحه ومرونته، وإلى فكر الغِنى والرخاء بدلاً من الضيق والعوز، نحتاج بجانب ما نحققه من إنجازات تنموية تتزايد يوماً بعد يوم، إلى تجديد منهج فكرنا، ومواجهة الإرهاب وإضعافه وصولاً للقضاء عليه نهائياً، وبحيث تنطلق التنمية بسرعة أكبر ووسط ظروف أكثر ملائمة.
وبينما نسير على هذا الطريق، طريق تمهيد الأرض لتنميةٍ مستدامة حقيقية، لم نُغفل أن لدينا مسئولية كبرى تجاه شعبنا العظيم، باحتياجاته المعيشية والتنموية، ولذلك، فَضّلنا بدلاً من إضاعة مزيد من الوقت وإهدار مزيد من الجهد في التحايل على مشكلتنا الاقتصادية، أن نواجهها ونتعامل مع جوهرها، كنا وما زلنا في سباق مع الزمن، لتصحيح الاختلال في الاقتصاد، وتوفير سبل المعيشة الكريمة للمصريين، قطعناً طريقاً صعباً، ونحقق تقدماً سريعاً تشهد عليه المؤسسات الدولية في وقت قياسي.
لقد حاولنا مواجهة المشاكل بكل صدق وأمانة، رغم إدراكنا لمخاطر الإصلاح الاقتصادى إلا أننا فضلنا اللجوء إلى الطريق الصعب ونحينا جانباً أية مصالح شخصية، وتبنينا طريق البناء والتقدم والرخاء والتنمية، نأخذ بالأسباب ونتوكل على الله دون تواكل، ويجب علينا جميعاً أن نعمل للوصول إلى تلك الأهداف.
ولعلكم تشعرون بالسعادة معي، عندما تعلمون أن احتياطينا من النقد الأجنبي قد ارتفع إلى معدلات غير مسبوقة منذ عام 2011، بفضل الله ثم بفضل جهودنا جميعاً وحسن تخطيطنا لمواردنا، وأقول لكم، أن هذه مجرد بداية لما نرجو الوصول إليه، وأن الاحتياطي النقدي المتزايد، والصادرات التي يرتفع حجمها، والنمو المضطرد في الناتج المحلي الإجمالي، كل هذه مؤشرات تطمئن قلوبنا على أننا على الطريق الصحيح، وأننا برغم ما نتكبده من عناءٍ ومشقة في طريق الإصلاح الاقتصادي، إلا أننا عاقدون العزم على الاستمرار حتى نحصد ثمارَ صبرنا: رخاءً وتقدماً وكرامةً واستقراراً، لنا ولأبنائنا وبناتنا من بعدنا، جيلاً بعد جيل.
وفى النهاية أطالب كل المصريين والجهات الأمنية بالانتباه وتوخى الحذر في هذه الفترة، التي تستهدف فيها قوى الشر النيل من استقرار مصر وأمنها، على كل المصريين أن ينتبهوا لحماية دور العبادة والمنشآت الحيوية في مختلف أنحاء الدولة، كونوا متيقظين ومستنفرين للدفاع عن مقدراتنا.. فقوى الشر تسعى إلى قتلنا وتدميرنا.
أشكركم، وأتمنى لكم كل الخير، وكل سنة وأنتم طيبين، ومصر بسلام وتقدم وازدهار،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته."